من موقع المثقف الذى يؤمن بقدسية الحياة، أكتب هذه الكلمات لا بوصفها بيانًا سياسيًّا، بل نداءً إنساني فى وجه مأساة لا تنتهى. غزة، هذا الجرح المفتوح، تُسحق يومًا بعد يوم تحت آلة اسرائيلية عسكرية لا ترحم، بينما العالم يراقب بصمتٍ مخزٍ أو تواطؤٍ معلن.
نعلنها بوضوح لا لبس فيه: ما يحدث فى غزة ليس دفاعًا عن النفس، بل إبادة ممنهجة لشعب أعزل. القنابل لا تميّز بين امرأة وطفل ومسلح، والمدارس والمستشفيات تحوّلت إلى مقابر جماعية. المجازر تُرتكب أمام أعيننا، تحت غطاء دبلوماسى مهترئ، يساوى بين الجلاد والضحية.
نحن لا نُزايد على القيم الإنسانية. نحن نؤمن بقداسة كل حياة، سواء كانت يهودية أم عربية. لكن هذا الإيمان يصبح تواطؤًا إن لم يُترجم إلى موقف صارم تجاه العدوان الصارخ، وإن لم نُدِن بصوت عالٍ هذه المجازر المستمرة بحق الفلسطينيين.
إن ما يعانيه أهل غزة اليوم ليس فقط القتل، بل الجوع والعطش والتشريد. البيوت سُوّيت بالأرض، والمخيمات لم تعد مأوى بل مآسى. لا دواء، لا ماء، لا غذاء، ولا حتى لحظة أمان. إنّ إيصال المساعدات الإنسانية أصبح واجبًا أخلاقيًّا وسياسيًّا لا يحتمل التأجيل. كل ساعة تمر دون غذاء هى جريمة، وكل تأخير فى إغاثة المحاصَرين عار على جيش اسرائيل وخيانة لقيم الإنسانية.
لكن القضية لا تُختزل فى معونات طارئة. لا بد من حلّ سياسى جذرى، لا هدنة مؤقتة ولا وقف هشّ لإطلاق النار، بل اتفاق سلام عادل وشامل، يعترف بالحقوق الوطنية للفلسطينيين، ويضمن الأمن للجميع، على أساس الكرامة والمساواة.
فى قلب هذه المأساة ينهض ما سمّته حنّة آرنت (Hannah Arendt) بـ»تفاهة الشر» the banality of evil؛ حين يُمارَس القتل كعمل بيروقراطى رتيب، بلا غضب أو شعور بالذنب، بل بغطاء قانونى أو أخلاقى زائف. هكذا تُرتكَب المجازر الإسرائيلية اليوم: ببرود إدارى، كأن الدم الفلسطينى مجرّد رقم فى تقرير. الشر، كما رأت آرنت، يفقد ملامحه حين ينفّذه أناس عاديّون، يبرّرونه، ويعتادونه، حتى لا يبدو شرًّا أصلًا، بل يصبح فعلًا بلا وجه.
والأدهى أن بعض الساسة فى الولايات المتحدة، ممن يزعمون الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، يعتمدون ازدواجية أخلاقية صارخة: يصمتون أو يبررون القتل فى غزة، بينما ينددون بكل عنف آخر فى بقاع العالم. أيّ ضمير هذا الذى يتجزأ؟ وأى عدالة تلك التى تُقاس بجنسية الضحية؟
مصر تعرف غزة أكثر من غيرها. تشاركها اللغة والدم والهمّ. من هنا، فإننا فى لحظة امتحان أخلاقى كبرى، تتجاوز السياسة وتطال جوهر إنسانيتنا.
من موقعنا كمثقفين وأكاديميين، لا بد أن نرفع الصوت عاليًا: أوقفوا القتل. أرسلوا الغذاء. افتحوا الأفق لسلام حقيقى لا يُبنى على أنقاض الضحايا، بل على عدالة شاملة تحفظ الأرواح.