ونس الدكة
حينما تبدأ فى قراءة كتاب «مصر من أول الخلق» سينتابك شعور غريب بأنه كتاب ثقيل من الصعب عليك فهمه، حيث ستجده مليئًا بالتواريخ والأحداث التى ترجع إلى العصور الزمنية السحقية فى عمر البشرية، والتى لا قبل لك باستيعابها أو حتى تقدير قيمتها التاريخية والانسانية، بل قد تشعر أيضاً بأنك لست طرفاً فى هذه الحدوتة المصرية القديمة طالما أنك حي ترزق تمرح فى شوارعها اليوم مستمتعًا بأهراماتها ونيلها ونخلها وواحاتها، ولكنى على يقين أنك كلما أبحرت فى هذا الكتاب البديع وتعاملت معه كقطعة من الدانتيل الشفيف غالية الثمن بعقودها الدقيقة والمتناغمة، ستبدأ فى الدخول فى حالة من الفضول والشغف لمعرفة المزيد والمزيد عن بدايات هذه الحدوتة المصرية القديمة كما نقلتها لك بأمانة الباحثة الدؤب والمؤرخة العاشقة لتراب وطنها الزميلة العزيزة ورفيقة رحلة مهنة المتاعب الدكتورة هالة أحمد زكى المحررة المتميزة بالقسم الثقافى بصحيفة الأهرام العريقة، ورئيس سابق لصفحة «التراث».
فى البداية تحفزك الدكتورة هالة أحمد زكى لكى تتبعها فى نداهة العشق لمصر المحروسة فتقول بغواية فكرية محببة متسائلة: كيف بدأت مصر؟
نحن أهلها، سواء ذهبنا إلى الشرق أو الغرب. سواء كنا أولاد وجه بحرى أو وجه قبلى، أو القاهرة، التى تحمل أكثر من قصة وحكاية. لكن هل فكر أحد منا أن يتتبع حكايتها الحقيقية لنعرف من هم أول المصريين فى التاريخ؟ وهل نحن إبناؤهم؟
كيف استطاعت مصر أن تسجل أولى علامات التحضر للبلاد منذ أكثر من ثلاثمائة ألف سنة كاملة لتتعدى بمراحل مفهوم سبعة آلاف عام من الحضارة.
وإن كانت المفاجأة الأكبر هى اللبنة فوق اللبنة، والأسطورة التى صنعها فلاح، ونساج، وصانع فخار ومعادن ومعمار عندما اتحدوا معًا بالقلب واللسان.
لم تكتفِ صاحبة الكتاب الدكتورة هالة أحمد زكى بغواية قارئ مخطوطها بل تدعوه للإبحار معها فى مياه مصر العميقة جدًّا، ليكتشف معها أن المصريين عاشوا فى بيوت قبل أن يولد الملك الفرعونى الشهير «مينا» أو «نارمر» أو كما أوردته بلقب صاحب البيت الكبير «نعرمر» موحد شمال مصر وجنوبها بمئات السنين، كما تخبرك على هيئة خبر عابر ومتوقع حدوثه فى أرض «كميت» أو «مصر» أن سيدة اكتشفت معدن النحاس فى بيتها، وان قبل العاصمة الفرعونية «منف» كانت هناك مدن مصرية متألقة.
تؤكد الدكتورة هالة أحمد زكى بعد استعانتها فى هذا الكتاب بأكثر من خمسة وسبعين ومائتين مرجع عربي وأجنبي أن ما ورد فى هذا الكتاب حدث وبالتفاصيل وبعزف منفرد، ما جعل من مصر شابة يافعة واثقة الخطى، وصاحبة أول قانون ودولة وعدالة.
ولكى تقترب من الحدوتة المصرية القديمة وبدايتها، تكتب الدكتورة هالة أحمد زكى عناوين فصول الكتاب على شكل دورات زمنية أشبة بعمر الانسان وتطوره فجاء عنوان الفصل الأول: «من أول السطر»، ثم تتوالى العناوين الموحية بالمكان والزمان: «قبل غبشة الفجر» «أول الضوء» «والصبح اذا تنفس» «أشرق الصبح» «صباح باكر» «قبل الظهيرة» «عز النهار» «شمس فى عنفوان إشراقها». ليأتى تعليقها الأخير «المتحدون بالقلب واللسان».
أجمل ما فى هذا الكتاب فى تصورى هى قدرة مؤلفته الدكتورة هالة أحمد زكى على أن تمنحك التفسير التاريخى والجغرافى لما أنت عليه اليوم كمصرى مستثنى من هجمات البشرية الشرسة على شكل حروب وأمراض واستيلاء على مقدرات شعوب مجاورة وغيرها من ابتلاءات الألفية الثالثة فتقول وبثقة: ثوابت كبيرة وكثيرة تمنح هذا الوجود العميق. ولهذا تأتى قوة مصر من تجارب القدم والاستمرار والاجتهاد.
أخيرًا أدعو المصريين لقراءة كتاب «مصر من أول الخلق» لكى يؤمنوا بقدراتهم وعظمتهم فى تخطى كل أزمة ومواجهة أى محتل، ويعرفوا بحق عمرهم التاريخى الممتد عبر آلاف السنين.
أيضًا أطالب وزارة التربية والتعليم المصرية بتبنى تبسيط هذا المخطوط الضخم بالتعاون مع مؤلفته الدكتورة هالة أحمد زكى ليخرج على شكل أجزاء مبسطة تدرس لطلبة المرحلة الاعدادية لكى تعرف الأجيال القادمة حقيقة جيناتها المتفردة من أين أتت وإلى أين ستذهب، محملة بعقيدة حب الوطن فرض عين وليس اختيارا قابلا للقبول أو الرفض.