هدنة «بوتين» المؤقتة تكشف هشاشة خطة السلام الأمريكية

طرحت روسيا، عبر رئيسها فلاديمير بوتين، مبادرة لوقف إطلاق النار لمدة 72 ساعة فى مايو المقبل، تزامناً مع إحياء الذكرى الـ80 لانتهاء الحرب العالمية الثانية فى أوروبا، إلا أن هذه المبادرة سرعان ما تحولت إلى عنصر جديد فى لعبة التوتر الدبلوماسى. قوبلت المبادرة بتحفظات شديدة من الأطراف الغربية، كما ردت عليها أوكرانيا بمقترح مضاد يمدد الهدنة إلى شهر، فى محاولة لفتح نافذة تفاوض حقيقية. ولكن، فى الخلفية، توجد تفاصيل أكثر تعقيداً تدور خلف الكواليس.
الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الساعى إلى تسجيل اختراق دبلوماسى فى ولايته الثانية، قدم خطة سلام تتضمن سبع نقاط. الخطة تسعى إلى تهدئة النزاع الدامى الممتد منذ عام 2022، لكنها لم تلق قبولاً من روسيا أو أوكرانيا بالكامل. وعبر ترامب عن «إحباطه المتزايد» من قادة الطرفين، معتبراً أن كلاً من موسكو وكييف ترفضان التنازلات الضرورية لوقف الحرب.
لكن تصريحات وزير الخارجية الروسى سيرغى لافروف كشفت عن تصلب كبير فى الموقف الروسى، إذ شدد على أن أى اتفاق مستقبلى يجب أن يتضمن «اعترافاً دولياً» بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم، إلى جانب مناطق دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا، رغم أن القوات الروسية لا تسيطر بالكامل على هذه المناطق. كما طالب لافروف بإزالة كل العقوبات المفروضة على روسيا، وسحب الدعاوى القضائية الدولية، وإلغاء أوامر الاعتقال، بالإضافة إلى إعادة الأصول الروسية المجمدة فى الغرب، معتبراً أن هذه البنود «ضرورية لأى تسوية حقيقية». بحسب التليجراف البريطانية،
إلى جانب المطالب السياسية، تحدث لافروف عن مطالب أمنية أكثر شمولاً، حيث قال إن بلاده تحتاج إلى «ضمانات أمنية قوية وملزمة» تحميها من أى تهديد ناتج عن توسع الناتو أو تدخلات الاتحاد الأوروبى، ما يعكس رؤى موسكو الطويلة الأمد بشأن البيئة الأمنية الأوروبية بعد الحرب.
وتزامنت تصريحات لافروف مع ما نشر من أنباء عن خطة سلام أمريكية وزعت على المسئولين الأوكرانيين خلال اجتماعات عقدت فى باريس ثم لحقت بلقاءات فى لندن. وتمنح هذه الخطة موسكو سيطرة فعلية على مناطق واسعة داخل أوكرانيا، مقابل اعتراف الولايات المتحدة بسيادة روسيا على القرم. مع ذلك، وضع ترامب حدوداً للمطالب الروسية، حيث رفض بشكل قاطع أى طلب روسى بفرض قيود على حجم الجيش الأوكرانى أو على صناعاته الدفاعية، مؤكداً أن مثل هذه الشروط «لن تكون مقبولة كثمن للسلام».
فى السياق بدأ الموقف الأوروبى أكثر تماسكاً، إذ أبدت حكومات فرنسا وبريطانيا دعمها لحق كييف فى بناء جيش قوى بعد انتهاء الحرب، باعتباره الوسيلة الأنجع لردع أى اعتداءات روسية فى المستقبل. كما رفض الأوروبيون بشكل غير مباشر أى خطة سلام تفرض تجريداً عسكرياً شاملاً على أوكرانيا، فى ظل التجارب السابقة التى أظهرت أن تقليص القوة العسكرية لكييف أدى إلى تعقيد الوضع الأمنى بدلاً من استقراره.
وفى سياق التبادلات السياسية، اتهمت كييف موسكو بانتهاك الهدنة السابقة خلال عيد الفصح، حيث أعلن وزير الخارجية الأوكرانى أندريه سيبيا أن روسيا خرقت وقف إطلاق النار أكثر من 3000 مرة. وأضاف أن موسكو استغلت الهدنة لتعزيز قواتها وتحريك وحدات قتالية قرب خطوط الجبهة، ما يجعل أى هدنة جديدة محفوفة بالمخاطر إذا لم تكن مشروطة برقابة دولية صارمة.
ورداً على مبادرة بوتين الجديدة، دعا سيبيا إلى وقف إطلاق نار شامل لمدة 30 يوماً، مشيراً إلى أن «السلام الحقيقى لا يبدأ بعروض رمزية، بل بالتزام حقيقى بوقف القتل وبدء التفاوض الجاد». وأشار إلى أن أوكرانيا لا تمانع فى هدنة طويلة، لكن المطلوب «هو ضمانات وضوابط وليس مجرد احتفالات عسكرية».
من جانبها، أكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، أن ترامب لا يزال يعتقد بإمكانية التوصل إلى اتفاق شامل، لكنه «يدرك أن أى اتفاق يتطلب إرادة سياسية وشجاعة من الجانبين». وأضافت أن الرئيس الأمريكى «يريد أولاً وقفاً دائماً لإطلاق النار، لأنه يدرك أن أى سلام مؤقت يمكن أن يستغل لإعادة تنظيم الهجمات».
ومع هذه التحولات، برز تطور اقتصادى قد يسهم فى تقريب وجهات النظر، إذ أعلنت أوكرانيا التوصل إلى تفاهم أولى مع إدارة ترامب بشأن صفقة طويلة الأمد لتقاسم المعادن والموارد الطبيعية. وأكد رئيس الوزراء الأوكرانى دينيس شميهال أن واشنطن وافقت على إسقاط مطالبها السابقة باحتساب الدعم الأميركى قبل توقيع الاتفاق ضمن الميزانية التعاقدية، ما اعتبر خطوة حسن نية من الطرف الأمريكى لتسهيل العودة إلى طاولة المفاوضات.
هذه الخطوة لم تأت بمعزل عن ضغوط غربية. فالحلفاء الأوروبيون، الذين دعموا كييف بالسلاح والمال منذ بداية الغزو، حاولوا فى الأسابيع الماضية دفع المسئولين الأوكرانيين نحو إعادة تقييم المواقف والبحث عن حلول سياسية، خاصة فى ظل استنزاف الموارد واستمرار المعاناة الإنسانية فى مناطق الاشتباك.
لكن رغم التحركات الدبلوماسية المكثفة، يظل احتمال التوصل إلى اتفاق نهائى رهناً بتوازنات دقيقة. فبوتين يريد اعترافاً دولياً ورفعاً للعقوبات، بينما ترفض أوكرانيا التنازل عن سيادتها. أما ترامب، فبينما يلهث وراء إنجاز دبلوماسى يضاف إلى سجله الانتخابى، يجد نفسه فى مواجهة ملفات أكثر تعقيداً مما تبدو عليه عناوين الأخبار.