كبسولة فلسفية
قدمنا في مقال سابق تحت عنوان "جون لوك.. أول الفلاسفة التجريبيين" لمحة موجزة عن اللقب الذي حصل عليه جون لوك، وعن الاهتمام الذي أولاه في مجال العلوم الطبيعية، وتساءلنا أيضًا عن موقفه تجاه الأفكار الفطرية. إلا أننا وجدنا أن هذا المقال لم يكن كافيًا بدرجة كبيرة ليكون مصدر فهمنا لجون لوك وفلسفته، لذلك عمدنا إلى كتابة مقال آخر نفصل فيه الحديث أكثر عن منهجه وفلسفته، ليكون تساؤلنا: كيف استطاع جون لوك أن يؤسس للمعرفة الإنسانية؟
عزيزي القارئ، أول ما ذهب إليه "لوك" هو رفضه لأهم مبادئ الاتجاه العقلي، أي إنكاره أن تكون المعرفة الإنسانية أولية في العقل أو مفطورة فيه سابقة على كل تجربة، كما كان الحال بالنسبة لأفلاطون الذي يعتبر الممثل الحقيقي لنظرية المعرفة الفطرية، والذي ذهب إلى أن النفس أزلية أبدية موجودة في عالم آخر أسمى من عالم المحسوسات، وهو عالم الخير والجمال والحق، عالم المثل.
ولهذا جاء لوك بكتابه "مقال في الفهم الإنساني" ليفتح عهدًا جديدًا في تاريخ التفكير في مشكلة المعرفة وقد وصف لوك في مقدمة المقال (قد طرأ بذهني أننا قد سلكنا مسلكًا باطلًا، وأنه من الضروري قبل أن نشرع في القيام ببحوث من هذا النوع أن ندرس قدراتنا الخاصة ونرى أي الموضوعات تستطيع أذهاننا أن تعالج وأيها لا تستطيع)، وبهذه الطريقة المتواضعة بدأ لوك إلى تحليل العقل الإنساني، لا من ناحية أصله وطبيعته، بل من ناحية عمله ووظيفته، واستطاع أن يبين كيف تتكون المعرفة ومن أين تصدر. حيث قام بدحض مذهب القائلين بالمعرفة الفطرية من أمثال أفلاطوني كمبردج.
كما ذهب لوك في كتابه "المذهب العقلي الحقيقي للكون" إلى أن الدليل على حقيقة الوجود الإلهي مرتبط أشد الارتباط بإقرار الأفكار الفطرية في الإنسان، وأن المبدأ التجريبي المعروف "ليس في العقل شيء إلا وقد سبق وجوده في الحس أولا" يؤدى بنا إلى الإلحاد مباشرة.
هكذا يؤكد جون لوك خطأ القول بأن اكتشاف العقل لهذه المبادئ بدل على فطريتها، بل أنه يؤكد على أن العقل لا يكتشفها على الإطلاق، لأن العقل نفسه ليس سوى قدرة أو وظيفة تقوم باستدلال حقائق غير معروفة من مبادئ أخرى معروفة من قبل. والدليل على ذلك أن مبدأ عدم التناقض الذي يعد من أهم المبادئ العقلية غير معروف عند الأطفال والبدائيين، وفكرة الألوهية تختلف من شعب إلى شعب ومن جيل إلى جيل.
ولذلك أقر لوك أن الحقائق يتم اختزالها في الذاكرة، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أنها مفطورة في العقل. إذن، أي فكرة لا يدركها العقل لا يمكن أن توجد في العقل بأي حال من الأحوال. فالأفكار تختزن ويمكن استعادتها كأشياء عامة، وبهذه الطريقة يؤلف العقل الأفكار واللغة. ومن ثم، فإن الحقائق الواضحة في العالم هي الحقائق التي يمكن إدراكها بالحواس والخبرة.
وفي الختام، إن جون لوك هو أول من صاغ المذهب التجريبي ووضعه في صورته النهائية الحقيقة وكان إنكاره للمعارف الفطرية في مجال العلم النظري والأوامر الأخلاقية العملية بمثابة إعلان صريح منه بعدم كفاية العقل وعجزه عن الوصول إلى أي علم يقيني بطريق الفطرة. وعلى ذلك فالإحساس عن طريق التجربة سابق على التفكير ولا يتضمن العقل أي فكرة لم يكن الحس هو مصدرها.
ومن هنا كان قول لوك المعروف "ليس في العقل شيء لم يمر قبلاً بالحواس" غير أن النفس ليست سلبية في كل أحوالها، بل تستطيع أن تعمل وتخلق معتمدة على العناصر الأولى التي قدمتها التجربة، فتركب منها أفكارًا جديدة وتكون صورًا لا وجود لها في العالم الخارجي. ولعل هذه الصورة الجديدة والأفكار المركبة هي التي أوهمت بعض الناس بأن هناك فطرة وأن للحقائق طريقًا غير طريق الحس.