فن مصر أصيل يمتد عبر العصور
الابتهال الدينى.. روحانيات وأسرار

فى قلب القاهرة الفاطمية، حيث تتعانق أصوات المآذن مع ضجيج الشوارع، ينساب صوت شاب مبتهل يجلس على عتبات مسجد سيدنا الحسين، مغمض العينين، غارقاً فى لحظة خشوع، ينشد: من لى سواك؟ ومن سواك يرى قلبى ويسمعه؟ فيتوقف المارون لحظات، مأخوذين بسحر المشهد الذى يتكرر عبر الأجيال. فما سر الابتهالات الدينية؟ ولماذا تبقى خالدة فى وجدان المصريين؟
فن مصرى أصيل

ليس الابتهال مجرد غناء، بل هو نبض روحى يفيض خشوعاً، متجذراً فى وجدان المصريين منذ القدم. يرى بعض المؤرخين جذوره فى العصر الفرعونى، بينما يربطه آخرون بالعصر الفاطمى، حيث ازدهر الإنشاد الدينى فى أروقة الأزهر ومساجد القاهرة القديمة.
يقول الدكتور عادل السعيد، أستاذ الموسيقى الشعبية، إن ∩الابتهال∪ يعنى الإخلاص فى الدعاء، وهو ما يعكس طابعه الروحانى العميق، مؤكداً أنه ظاهرة مصرية أصيلة نشأت مع الاحتفالات الدينية وتطورت عبر العصور، حتى غدت جزءاً من التراث الدينى المصرى.
منذ صدر الإسلام، والقلوب تهتف بالدعاء والمديح، حيث كان الصحابة يتغنون بحب النبى صلى الله عليه وسلم بصوت يفيض خشوعاً. ومع الزمن، ازدهر فن الابتهال على أيدى شيوخ كبار كعبدالرحيم المسلوب، ودرويش الحريرى، وطه الفشنى، ثم حمله عمالقة مثل سيد النقشبندى ونصر الدين طوبار، وأضافوا إليه عمقاً مقامياً وارتجالياً زاده سحراً وتأثيراً.

ومع أن هذا الفن كان يوماً ركيزة الموسيقى الشرقية، إلا أنه يمر اليوم بمرحلة خفوت بفعل التغيرات الثقافية. ومع ذلك، لا يزال صداه حياً فى القلوب، ليظل الابتهال ترنيمة خالدة تتردد عبر الأجيال.
جدل حول الإنشاد الدينى والموسيقى
ورغم ما يمنحه الابتهال من صفاء روح وخشوع، تتعالى بين الحين والآخر أصوات تحرم الإنشاد المصحوب بالموسيقى، بل هناك من يحرم مدح النبى صلى الله عليه وسلم بالكامل. فى هذا السياق، يقول نقيب المنشدين محمود التهامى، إن الموسيقى والغناء من أقدم وسائل التعبير لدى البشر، وأن الإسلام لم يحرم الفطرة البشرية، بل أباح الفرح بالغناء فى المناسبات السعيدة، بشرط الابتعاد عن الفحش. وأوضح أن الأصل فى الأشياء هو الإباحة، وأن التحريم يتطلب دليلاً صريحاً، مشيراً إلى أن النهى قد يكون ظرفياً وليس دائماً. كما استشهد بآراء كبار العلماء، مثل ابن حزم والغزالى والشعراوى، الذين أجازوا الغناء لعدم وجود نص قرآنى صريح بتحريمه، مؤكداً أن النبى صلى الله عليه وسلم سمح بالغناء فى الأعياد والأعراس.

من جانبها، أكدت دار الإفتاء المصرية أن مدح النبى صلى الله عليه وسلم سنة ثابتة منقولة بالتواتر، وهو من أعظم القربات التى استمر عليها المسلمون عبر العصور، حيث تحبب المدائح النبوية الناس فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترغبهم فى اتباع سنته والاقتداء بشمائله وسجاياه الكريمة.
أصوات صنعت التاريخ
لا يمكن الحديث عن روحانيات الابتهالات دون ذكر ثلاثة أسماء تتبادر إلى الذهن فوراً عند ذكر هذا الفن، وهم: نصر الدين طوبار، سيد النقشبندى، والشيخ محمد عمران.
فى ليلة رمضانية هادئة، وقف الشيخ نصر الدين طوبار أمام الرئيس أنور السادات فى احتفال دينى، يردد بصوته العذب: ∩مجيب السائلين.. يا رب العالمين∪، وساد الصمت، وكأن الزمن توقف، فأغمض السادات عينيه متأثراً، ثم فتحهما، وقال: ∩الصوت ده لازم يسمعه العالم كله!∪. ومنذ تلك اللحظة، صار طوبار صوت الابتهال الرسمى فى المحافل الكبرى، فطاف صوته أنحاء العالم، يحمل معه روحاً ملائكية لا تنسى.
أما الشيخ سيد النقشبندى، فقد كان لصوته طابع مميز جعله واحداً من أعظم المبتهلين فى التاريخ. بينما كان يؤدى أحد ابتهالاته، قاطعه السادات بعد انتهائه قائلاً: ∩الله يفتح عليك، بس ليه دايماً بنفس اللحن؟∪. أثار هذا التعليق بداخله تحدياً جديداً، ليخوض تجربة فريدة بالتعاون مع الموسيقار بليغ حمدى. وكانت النتيجة تحفة خالدة: ∩مولاى إنى ببابك∪. هذا الابتهال كسر القالب التقليدى، وأصبح أحد أعظم الأعمال فى تاريخ الإنشاد الدينى.
أما عن الشيخ محمد عمران، فلم يكن مجرد مبتهل، بل معجزة صوتية نادرة، جمع بين تلاوة القرآن والابتهال بأسلوب لم يسبقه إليه أحد. فتارة يبكيك بخشوع آيات الله، وتارة يأخذك فى رحلة روحانية بصوته الطربى العذب، فى مزيج ساحر يجعلك تهتف: ∩الله.. الله∪.
فى النهاية، لم تكن أصوات هؤلاء العمالقة مجرد نغمات، بل همسات من السماء، ما زالت الأجيال ترددها، شاهدة على فن خالد لا يغيب. ومع كل نغمة تتلاشى المسافات بين الأرض والسماء، فهل ستظل هذه الأصوات خالدة فى أرواحنا كما بقيت فى آذاننا؟