دوحة المقاصد
" حفظ الدين"
الدين هو القواعدُ الإلهية التي بعث الله بها الرسل، لترشد الناس إلى الحق في الاعتقاد، وإلى الخير في السلوك والمعاملة، فكلمة الدين ليست كلمة تلوكها الألسن؛ بل هي معتقد راسخ في الوجدان، وحركة تسعى في الأرض بالعبادة والعمرآن، وأثر في السلوك يُهذب النفس والوجدان، من أجل ذلك كان حفظه في المرتبة الأولى لسلم الضروريات عند جمهور أهل الأصول والمقاصد، وقد أوضح العلامة الطاهر بن عاشور معنى حفظ الدين بقوله: "فحفظ الدين معناه: حفظُ دين كل أحدٍ من المسلمين أن يَدْخُلَ عليه ما يُفسدُ اعتقادَه وعملَه اللاحقَ بالدِّين، وحفظ الدِّينِ بالنسبة لعموم الأمة؛ أي: دفعُ كلِّ ما من شأنه أن يَنقضَ أصولَ الدين القطعية، ويدخل في حمايةِ البيضةِ والذَّبّ عن الحوزةِ الإسلامية؛ بإبقاءِ وسائل تلقي الدين من الأمة حاضرها وآتيها." وحفظ الدين وكل الضروريات يُحفظ من ناحيتين: ناحية إيجابها وتحقيقيها، وناحية بقائها، الأولى: إيجابية تتعلق بمراعاتها من جانب الوجود، والثانية: سلبية تتعلق بمراعاتها من جانب العدم، فمن ناحية الحفظ الوجودي يُحفظ الدينُ بالتمسك بأركان الإسلام وتدعيم أصول الإيمان، وتهذيب الأخلاق بمقام الإحسان، ومثال ذلك النطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وإقامة سائر الشعائر وتهذيب النفوس بالذكر ..إلخ.
أما الحفظ العدمي: فيقصد به حفظ الدين بالنظر في ما يُهدده، لا ما يُقيمه، لذلك رُبط حفظ الدين بالزواجر والعقوبات، فشرع الجهاد وقتال المعتدين من ناحية، وبعقوبة الردة والتي تُعد في الرؤية الإسلامية خروجًا على النظام العام من ناحية أخرى.
وتشريع الجهاد كمسلك لحفظ الدين لم يكن لحمل الناس على اعتناقه قصرًا؛ بل كان وسيلة لحفظ دين المسلمين ممن يريدون أن يقضوا عليه وعلى معتنقيه، والمتأمل في آيات القتال يتبين أن القتال شُرع للدفاع، وأنه لم يكن وسيلة لإكراه الناس على الدخول في الإسلام؛ لأن الدين بِعدله ويُسره وقواعده دين هداية، يغزو قلوب الناس بالهدى والنور من غير قهر أو تسلط، وعقوبة الردة شُرعت لمثل من قالوا: "آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون}[آل عمران:72] ولسنا هنا في صدد تكييفها حدًا أو تعزيرا؛ إنما في التأكيد على أنها عقوبة تُقام لآثارها الخطيرة، فنحن نرى أن العقوبة إن أقيمت إنما تُقام إذا خرج المرتد "على الإسلام" لا إذا خرج "من الإسلام"؛ إذ دعوته: (لا إكراه في الدين)، فالردة الفردية التي لا تُقلِّب الناس على الإسلام بالتشكيك والطعن وزرع الفتن، وتقتصر على نفس صاحبها، فلا عقوبة عليها دنيوية؛ إذ ليس في الإسلام محاكم تفتيش، لكن الردة المقرونة بالحِرابة والجماعية - كما فعل المرتدون في عهد سيدنا أبي بكر الصديق- هي المُجرّمة؛ لكونها تقوّض المجتمع من الأساس، وتنشر فيه الفتن والدمار، وهي مُجرّمة ليس في الإسلام فقط بل هي مُجرّمة في كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية فيما يعرف بالتعبير الحديث بجريمة "الخيانة العظمى"، والتي نصت عليها دساتير الدول، وجعلتها في مقدمة مدونتها العقابية، وفي زماننا تغير مفهوم الجهاد، فلم يعد الجهاد عسكريًا فقط، بل له أبعاد معرفية وتكنولوجية وإلكترونية، كما تغير مفهوم الحِرابة، فلم يعد حملا للسلاح وخروجا على المجتمع بالترويع وفقط؛ بل تطور إلى عقول مفسدة خلف شاشات الحواسيب، تشكك في الثوابت والمقدسات، وتهدم الرموز، وتزرع الفتن، وتُؤصل للتطرف والإرهاب ..إلخ.
وعليه لم تعد المواجهة مواجهة فردية؛ بل مواجهة مؤسسية تعود في جملتها لولي الأمر، فلا يجوز الافتتات على القاضي بإصدار الأحكام والتجرؤ على الحكم بالتكفير، ولا على ولي الأمر بالتنفيذ وتطبيق الأحكام؛ حتى لا ينفذ للمجتمع من يُقوض أركانه ويهدم بنيانه.