رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

 

في كتابه (سيد درويش – المؤلف الحقيقي للنشيد الوطني) – والذي يحمل عنوانا فرعيا: "وقائع سرقة معلنة" – يحاول الكاتب الصحفي خيري حسن إثبات قيام الشاعر محمد يونس القاضي بالاستيلاء على النشيد الوطني "بلادي بلادي" ونسبه لنفسه بينما هو في الأصل من تأليف وتلحين الموسيقار الكبير سيد درويش، كما يثبت أن درويش استمد مذهب هذا النشيد من كلمات ألقاها الزعيم الوطني مصطفى كامل ضمن آخر خطبه له في العام 1907 "بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي .. لكِ حياتي ووجودي." لكن خيري حسن لا يكتفي بدور الباحث الذي يستقصي الحقائق ويفند الأحاديث الصحفية للقاضي والوثائق التي قدمها بنفسه ليثبت بها قيامه بتأليف النشيد؛ لا يكتفي خيري بهذا الدور الذي يؤديه داخل الكتاب بصبر وتأنٍ محسوبين حتى يصل إلى مبتغاه في النهاية ويعيد الحق – ولو نسبيا – إلى صاحبه الأصلي؛ الشيخ سيد درويش. بل يلعب خيري عددا من الأدوار المركبة؛ تبدأ بدور الصحافي المهموم بالبحث والاستقصاء والذي يطعِّم بحثه بكل ما تطاله يد الباحث من أدلة وبراهين ومراجع ومصادر، بل ويشير أيضا – بأمانة الباحث – إلى المراجع التي تعارض وجهة نظره. وتمر هذه الأدوار بدور الأديب/الفنان الذي تعلَّق – ذهنا وقلبا وحسا وشعورا – بالشيخ سيد كسيد لفن الغناء بما يشمله من تلحين وتأليف في مرحلة مبكرة من تاريخنا الفني وتعلق أيضا بمصر كسيدة للفنون في المنطقة والعالم والتاريخ. كما يلعب خيري دور الحكَّاء الذي يرتقي إلى دور سارد متميز يستميل قلب المتلقي وعقله ويهمس له بحكايات عن تكوين الشيخ سيد وعن صباه وشبابه ومغامراته العاطفية والفنية وحياته الأسرية والاجتماعية وغيرها، بينما تتغلف هذه الأدوار بدور هام هو دور المحب/المغرم الذي يتأرجح بين باحث يتسائل ويفند ويحلل، وبين متيم بالغناء كفن وبمصر كموطن أصلي ومبكر لهذا الفن العريق وبسيد درويش كركن هام من أركانه في مصر وفي الشرق كله. 
يحملك خيري على كف الراحة ليقدم لك جزءً كبيرا من المتن على شكل حكاية تتغلف بغلاف فني (عبر تقنيات التصوير والتدليل والإجمال والتفصيل وتضفير الحقيقي بالمجازي) وكلها تقنيات ترقى بالحكايات من المستوى الشفاهي إلى مستوى الخطاب السردي. يقول في الصفحة (16): "المقهى الآن هادىء إلا من بعض الأحاديث الجانبية وضحكات بعض رواد المقهى، حيث عرف المصريون بالتنكيت في الزمن القديم." وفي (17): "حيث المدينة هي المدينة، والباعة هم الباعة، والحارة هي الحارة، والظلام هو الظلام." يجعلك خيري تعايش الحكاية من الداخل، يقول في (20): "الآن تم فصل سيد درويش من المعهد ... بعدما استجاب إلى نداء الموهبة ورفض نداء الدراسة." يقسِّم خيري بعض الفقرات إلى سؤال وجواب "صدر وعجز" يصنع بهما تشويقا خاصا، يتسائل في (22): "لكن من أين جاء حب سيد درويش للموسيقى والغناء؟ يقول صديق طفولته وجاره في الحارة ....." كما يتسائل في (32): "إذن ماذا قال الشاعر محمد يونس القاضي في هذا الحديث لمجلة المصور؟ قال ....." وفي (33) يسأل بنباهة: "إذن فكيف وصلت لأغنية إلى حلوان؟ ولماذا حلوان بالتحديد؟" ثم في (46) يتسائل بذكاء ليشكك في أمر بعينه: "فهل نصدق زكي طليمات وكلامه المكتوب في مذكراته أم نصدق محمد يونس القاضي وأحاديثه الصحفية المتضاربة؟!" 
يتولى خيري دور الروائي بخفة، يقول في (30): "وذات يوم مر أحد أعوان الشيخ سلامة حجازي يتجول بجوار مقهى شيبان فاستمع بالصدفة إلى صوت سيد درويش يغني ....." ثم يتولى دور الحكاء الذي يفند بالدليل، رغم انحيازه بدرجة ما، يقول في (39): "لكن لا الشيخ سيد جلس! ولا الشيخ سيد حلق!" ثم يضم دوري الحكاء والباحث في آن؛ وذلك في (45) حين يقول: "الوصف هنا غرضه تشويه صورة سيد درويش ضمن حملة ممنهجة قادها الاحتلال وأعوانه في الفن والثقافة والصحافة، وقد بدأت منذ وفاته واستمرت سنوات طويلة حتى جاءت ثورة يوليو، فتغيرت الأمور قليلا، خاصة بعدما أرسل الرئيس جمال عبد الناصر خطاب تحية وتكريم لأسرة سيد درويش." يموسِق خيري حكاياته ليمنحها النفحة الفنية الممتعة، يقول في (50): " كان هائما بأكثر من حبيبة .. يحب في القاهرة مثلما يحب في الإسكندرية. كريم في حبه .. كريم في بيته .. عزيز النفس .. مرهف الحس .. سريع الغضب .. سريع التسامح." يتولى دور المحلل لنفسية سيد درويش ومزاجه، يقول في (51): "ولكي نحاول التعرف على مزاجه النفسي نجده حاد المشاعر، إذا غضب يصبح ثورة، وإذا أخلص بالغ في إخلاصه، وإذا فرح بالغ في فرحه، وإذا حزن بالغ في حزنه، فهو لا يعرف الاعتدال ولا الوسط في أي شيء، إما يكون بحرا هادرا أو نيلا منسابا." يتعامل السارد مع سيد درويش بوصفه شخصية روائية طبيعية تنطوي على شر وخير؛ يقول في (52): "لقد حاول سيد درويش التخلص من العشق .. نجح أحيانا وفشل أحيانا. وحاول التخلص من المخدر .. نجح أحيانا وفشل أحيانا. لكنه مع النجاح ومع الفشل ظل كما هو لم يتغير أو يتبدل أو يتلون." كما يقوم السارد أحيانا بإجمال الحكاية بلغة صحافية تقريرية محايدة، يقول في (54) "إن موهبة سيد درويش في كتابة الشعر والأغاني بدأت ملامحها تتشكل بداخله منذ الصغر، وظهرت مع عشقه وحبه لجليلة ثم تجلت وتخلت عن عشق المرأة والذات والنزوات إلى عشق الوطن وترابه وناسه الطيبين مع بدايات ثورة 1919." يتناول السارد حوارات حقيقية وينقلها لنا في صورة سردية، يقول الشيخ سيد عن جليلة حبيبته (45): "أشعلت النار في جسمي ثم تركتني فلم يستطع وابور المية وكل حنفيات الحي أن تطفىء اللهب بداخلي." هذا السارد مهموم بالفن والوطن والحق، يتضح ذلك في (64): "ماذا نقول لأطفالنا إذا ما عادوا من مدارسهم وسألونا: من الذي كتب نشيد بلادي؟" وأخيرا يتولى هذ السارد دور المحلل السوسيولوجي والتاريخي، في (78): "الذين لا يذكرون الماضي محكوم عليهم أن يعيشوه مرة أخرى." 
على أن الباحث وهو يتحرك في بحثه بخطوات محسوبة تستهدف إقناع القارىء بالأدلة، يتولى أيضا دور المحامي الذي تتواتر الأدلة على لسانه. يقول في (34) "خاصة أن هذا القول  لو كان حدث بالفعل وطبقا لقانون العقوبات المصري لأصبح لسيد درويش قضية في المحاكم المصرية." وفي (57): "ثم عاد يونس القاضي وناقض نفسه في حديث له مع محمد التابعي في صحيفة أخبار اليوم، عندما قال عن جليلة ......." وفي (59): "لكن بديع خيري ذهب للإذاعة ونفي تأليفه للنشيد" وفي الصفحة (68) "ولا أعرف لماذا المحكمة المختلطة بالتحديد ونحن هنا لسنا أمام نزاع  قضائي أصلا." كما  يقول في (69): "فكيف يقال أنها مسجلة في الشهر العقاري الذي لم يكن موجودا أصلا؟" حتى يشعر خيري حسن بمنجزه وبكم الأدلة التي قدمها فيطلق آخر رصاصة في معركته بخفة وألق، مستهدفا إظهار الحق، يقول في (74): (هل فتحت المحكمة أبوابها في يوم عطلتها الرسمية – يوم الجمعة – حتى يسجل الشاعر يونس القاضي كلمات النشيد؟" وهنا يصل خيري إلى دليل دامغ يدعم به قضيته، فقد فتش خلف التاريخ الذي وثق فيه القاضي الأغنية باسمه ليكتشف أن هذا اليوم كان عطلة رسمية في المحاكم/الدولة! بعدما يهدأ خيري ويشعر بارتياح الضمير، يقول بلا مواربة (75): "إذن الجريمة واضحة وضوح الشمس أمامنا" ولا يكتفي خيري بذلك،  بل يتطرق في الفصل العاشر "هل مات مقتولا" إلى أقوال متضاربة نسجت حول موت سيد درويش ويفندها أيضا. كما ينهي الباحث الكتاب بملحق (وثائق وصور) تدعم وجهة نظره وقضيته وما قاله داخل الكتاب. 
يحدثنا خيري حسن عن عدد من العلامات التي تحمل دلالات معينة في تاريخ سيد درويش القصير حياتيا والعميق فنيا والطويل عمرا لما تركه من منجزات. يحدثنا عن سيد الذي تربى على الغناء للجماعة إذ كان يغني لمجموعة من البنائين، فأصبح همه أن يغني للوطن أو أن يجعل الناس يغنون معا كوطن. وقد عرض خيري حسن هذا الخط في شكل روائي رغم واقعيته، يقول: "في هذه الأيام الشاقة بالعمل، القريبة من اليأس، والبعيدة عن الأمل، اكتشف جمال صوته المعلم (المقاول)." يحدثنا أيضا عن حب سيد الكبير لمصر (62): "كان هذا هو النداء أو الرجاء أو الدعاء من الشيخ سيد درويش لمصر التي أحبها، وكتب ولحن وغنى وعاش لها. ومات من  أجل عزتها وحريتها واستقلالها وكرامتها." 
يدعم خيري حسن كتابه بمجموعة كبيرة من الأغاني والأزجال والأناشيد (في افتتاحيات الفصول وداخلها) التي تحيل المتن إلى وثيقة فنية تؤرخ ليس فقط لفن سيد درويش بل أيضا لتاريخ فن الغناء في مصر في مطلع القرن الماضي. 
يقول خيري عن دوافعه للقيام بهذه المحاولة البحثية والفنية في آن (84): "لأنه النشيد القومي، وصوت الوطن ورسالته النبيلة، وإنكار الحقائق والتستر على الأباطيل والأكاذيب – أو محاولة ذلك – ما هي إلا محاولات محكوم عليها بالفشل أمام التاريخ." 
يقدم لنا خيري حسن – بروح الصحافي والفنان والمهموم بالحق والحقيقة – متنا خفيفا في سرده، ثقيلا في بحثه وتقصيه، عميقا في دلالاته وحمولاته الفكرية، وجامعا لأكثر من دور وكاشفا عن مهارات عدة ومبشرا بأن البحث عن الحقيقة نشاط إنساني ممتد وواعدا أيضا ببيئة مصرية ولَّادة للفنانين والنقاد للأبد.