تأملات
اى متابع لمجريات الصراع مع اسرائيل ما بعد طوفان الأقصى لا يمكن أن يخفى عليه النهج المتشدد الذى يتعامل به بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى مع تطورات ذلك الصراع، بشكل يبدو معه واضحا أنه يعمل بكل جهده على توظيف ذلك التطور لصالح تحقيق أهداف إسرائيل الكبرى وتحقيق نقلة فى وضعها الإستراتيجى فى المنطقة. ورغم القوة العسكرية التى تبدو عليها الدولة العبرية بالشكل الذى مكنها من ممارسة ما يمكن وصفه بعملية أقرب إلى الإبادة الجماعية فى غزة إلا أن تل أبيب لم تستطع أن تحقق نصرا حاسما على المقاومة الفلسطينية هناك. ورغم بسالة هذه الأخيرة والحاقها خسائر كبيرة بالخصم ودورها فى إرجاء أو تعطيل النصر الإسرائيلى إلا أن هناك عوامل عديدة وقفت وراء هذا الجانب يأتى على رأسها قضية الأسرى أو الرهائن لدى حماس.
بعيدا عن اخلاقية أو عدم اخلاقية عملية احتجاز الرهائن من قبل حماس، فهذه قضية أخرى يقود النقاش فيها انعدام التزام إسرائيل بأى أخلاقيات فى الصراع، فإن المقاومة يبدو أنها كانت تعلم طبيعة اللغة التى تتعامل بها مع اسرائيل، وعلى ذلك ظلت قضية الأسرى الجانب المظلم أو نقطة الضعف فى الجانب الإسرائيلى على الأقل على مستوى الداخل.
رغم كل الصخب الذى ساد المجتمع الإسرائيلى على خلفية هذه القضية إلا أن نتانياهو انطلق كما أشرنا فى مقال سابق من فرضية أن أرواح الرهائن ليست أغلى من أرواح الجنود وهو ما كان يعنى قبول فكرة التضحية بهم مقابل تحقيق أهداف اسرائيل من الحرب على غزة. كان موقف نتانياهو رغم كل الضغوطات صلبا، أو بالغ التشدد والتطرف، ويبدو أنه كان على استعداد للتضحية بالغالى والرخيص من أجل القضاء على حماس وتطويع غزة على النحو الذى يريد.
ولقد ظل نتانياهو صامدا على هذا النحو فى مواجهة كل الضغوط ولم يستطع أن يثنيه عنها سوى الرئيس ترامب الذى قدم له أو أوحى له بخطة بديلة تجمع بين الهدفين، وتلقى قبولا لدى الجميع ظاهرها وقف إطلاق النار وباطنها تحرير الرهائن بثمن بخس يمكن استرداده.
مهما قلنا لا يمكن لوم المقاومة على قبولها وقف النار والذى لم يكن أمامها من خيار سواه فى إطار الظروف الإقليمية والدولية المتعلقة بالموقف مما يجرى على الأرض، وإن كانت حاولت أن توفر الظروف المناسبة لكى لا يتحول ذلك الوقف إلى سلاح ضدها. ولكن نتانياهو ومن ورائه ترامب يبدو أنه كان لديه هدف آخر وهو تحقيق خطوة الإفراج عن الرهائن بما يخفف ضغوط أسرهم على حكومته والتى كادت فى مرحلة من المراحل أن تصيبها بالشلل والعمل على توفير أو تهيئة الأوضاع بما يتيح لاسرائيل الإفلات من التزامها بخصوص ذلك الوقف.
الصورة العامة، وتعززها تهديدات ترامب بشأن ضرورة إطلاق سراح الرهائن دفعة واحدة، وتأجيل نتانياهو اطلاق سراح 600 سجين فلسطينى بدعوى الاعتراض على المراسم المهينة لإطلاق سراح الرهائن، فضلا عن تهديدات رئيس الوزراء الإسرائيلى للفلسطينيين على خلفية الجدل بشأن حقيقة رفات الرهينة الإسرائيلية شيرى بيباس، تشير إلى أن استئناف إسرائيل لعملياتها فى غزة أمر أقرب إلى الحدوث، وأن التزامها بوقف النار يفتقد للمصداقية.
بعيدا عن التساؤلات التى تطرحها المواقف الإسرائيلية التى تتسم بالصلف بشأن الضمانات التى قدمها الوسطاء وحدود دورهم فى ضمان التزام الأطراف جميعا وليس طرفا واحدا بالتزاماته، فإن الأوضاع فى غزة يبدو أنها ستظل ساخنة على وقع سيمفونية التوتر التى يعزف عليها نتانياهو ووليه ترامب ما يتطلب مرة ثانية قدرا من الحذر أكبر عربيا وفلسطينيا!