رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

نداء القلم

لم يكن بناة العلا الذين سكنوا القصور الفارهة والقلاع المحصّنة والمعابد الغاصّة بترانيم الأناشيد الخالدة، المُطرزة بالذهب والفضة كهؤلاء الذين سكنوا الجحور وناموا فى خواء العراء. ولم تتشابه قط الفاقة النفسيّة والماديّة مع التقدُّم الروحى والإيمان بالخلود لا فى مطلب ولا فى غاية ولا فى قيمة واحدة من قيم الرقى الحضارى على وجه الزمان. مصر التى ذكرت فى القرآن واقترن اسمها بالأمن والأمان، لهى هى البلد الذى تتقدّم فيه قيم الوجود الروحى وتنغرس فيه قيم الإيمان بالله، أصل الدين ومنبع التديّن.

حين تزوج إبراهيم الخليل عليه السلام أبو الأنبياء من السيدة سارة ولم تنجب، تزوج بعدها هاجر المصرية، فأنجبت له إسماعيل عليه السلام، خير أبناء الدنيا طاعة لأبيه، ومن ذريته جاء العرب، فلمّا تملكت الغيرة من السيدة سارة، أمر الله نبيه إبراهيم بعزل السيدة هاجر عنها، وأسكنها بوادٍ غير ذى زرع، ثم أنجبت السيدة سارة - بأمر الله على كبر - ولدها إسحاق، ومن ذريته جاء بنو إسرائيل، فمصر موجودة قبل العرب وقبل بنى إسرائيل. هى إذن أم الدنيا على الحقيقة بغير مجاز، وليست هى من الدعوى فى شئ.

وإذا كان العرب الحاليون هم أبناء إسماعيل، فبنو إسرائيل هم أبناء إسحاق ومن بعده يعقوب، ولكن السيدة هاجر المصريّة كان وجودها قبل إسماعيل وقبل إسحاق. ولم يكن خروج السيدة هاجر مع زوجها لتسكن بوادٍ غير ذى زرع، ولتنجب إسماعيل عليه السلام إلا لحكمة إلهية تقوّمها تشريع إلهى يكوّن أمة ويشرّع منسكاً من مناسك الحج، لتكون المصريّة هى نفسها رمز الحياة، إذ جعلت من الصحراء الجدباء أمّاً للقرى ومقصد القاصدين لزيارة بيت الله الحرام. وتتشابه هذه اللقطة التاريخية مع ما سيتلوها من زواج السيدة ماريّة القبطية، رضوان الله عليها، بخير خلق الله، صلوات الله وسلامه عليه، لتنجب له ولده إبراهيم، وليكون للمصرية شأنٌ فى بيت النبوة لم يعرف له شأن فى أمة من أمم الحضارة.

مصر أم التاريخ بغير منازع، لأنها قبل التاريخ بغير خلاف!

والبلد الذى يكون قبل التاريخ، يتخذ التاريخ منه مدده فى الثقافة والنظام والاقتصاد والعلم والمعرفة وسبُل الحضارة، والقيم الوجوديّة النافعة للناس بإطلاق.

وإذا وجد من بين المصريين من لا يعرف لبلاده قيمتها، ولا يقدر لها دورها، ولا يحفظ لها تاريخها، فليس بينهم من يتشدّق بما ليس فيها، لأن ما هو فيها أظهر من أن يخفى، وأقوى من أن يكون داعية للتشدُّق المرذول، وبخاصّة حين تكتمل الصورة لتكون ضمن العقائد المنزلة لا ضمن التصورات المزعومة، فمصر الدولة وجدت فى الواقع الفعلى قبل أن يوجد التاريخ، وكان اقترن اسمها بخزائن الأرض فى القرآن، واتفق أن يكون شعبها موصولاً بمباركة الله فى الإنجيل. ولم يكن سيدنا إدريس أول من خط بالقلم فى التاريخ إلّا ذلك المصرى الذى علّم العالم الكتابة، وهو أعرف العارفين بصيرورتها فى مسار الحضارة.

وإذا كان النبيُّ إدريس أول من كتب بالقلم ونحت الفكرة فى رحم العقل المصري، فإنّ نوحاً عليه السلام أول الرسل وأول من دعى لمصر فذكرها بالثناء وقال عنها: «أمُّ البلاد وغوث العباد». 

هى إذن أمُّ الدنيا بالحقيقة التى لا ينطق فيها أحدٌ عن دعوى أو عن هوى فوق ما نطق الأنبياء. نقول هذا لنذكر لبلادنا قيمتها وقيمها، ولا نهون من شأنها أو نقلل من دورها، فمهما عرض عليها من العوارض فلا تزال مصر هى القادرة القاهرة الباقيّة، وكل العوارض مع الزمن والعزم والتحدى تزول وتبقى مصر فوق العوارض والطوارئ قوية قادرة. حفظ الله مصر من كل مكروه.