عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حتى نلتقي

هناك 40 عامًا بالتمام والكمال تفصل بين صدور (القاهرة الجديدة)، وبين ظهور (العائش فى الحقيقة)، فالرواية الأولى صدرت عام 1945، والثانية قرأها الناس سنة 1985، فهل يعنى هذا شيئا؟

أجل... فالقارئ الحصيف سينتبه حتمًا إلى التطور المدهش الذى أحدثه صاحب الروايتين نجيب محفوظ فى اللغة العربية الفصحى عند مقارنته بين هاتين الروايتين؟.

الحق أن النثر العربى ظل قرونا عديدة يتخبط فى سراديب الركاكة، حتى جاء طه حسين والذين معه فوثبوا بالنثر وثبة كبرى إلى الأمام. حدث هذا عقب ثورة 1919. ومن أبرز الذين أسهموا بنصيب فى تطوير النثر العربى نذكر بكل إجلال الأساتذة الكبار إبراهيم عبدالقادر المازنى ومحمد التابعى وتوفيق الحكيم.

لكن الطفرة الكبرى فى النثر قادها بجدارة نجيب محفوظ فى النصف الثانى من القرن الماضى، حيث تمكن هذا العبقرى الفذ من تطويع اللغة الفصحى للتعبير عن معظم المشاعر الإنسانية المترعة بالأحلام والآمال والخيبات والآلام. أنشأ صاحب (الحرافيش) صياغات مبتكرة، وأسس تراكيب جديدة، وصنع معمارًا لغويا آسرًا، ومن فرط حلاوته استقر فى الذائقة ومازال.

تعال أوضح لحضرتك القفزة العجيبة التى قفزها محفوظ خلال أربعين سنة. فلنقرأ هذه الفقرة من (القاهرة الجديدة)، لنرى أسلوبه سنة 1945. يكتب الرجل: (وارتمى محجوب على مقعده فى الصالة، مرتفقا يد المقعد، مسندًا رأسه إلى راحته. وكان السكون شاملا كأنه بيت مهجور، وكل شيء بموضعه كأن أمورًا خطيرة لم تنقلب رأسًا على عقب. هل تستطيع روحه الثائرة أن تصمد لهذا الشلال العارم من الحظ العاثر؟ هل يمكن أن ينبرى لمواجهة هذه الأزمة الخطيرة بدرعه المعهود: «طز»؟ وما الحيلة إذا لم يستطع؟).

هذا نثر جميل لا ريب، لكنه تطوير واضح لنثر أساتذته الذين تعلم منهم، لكن تعال نطالع ما كتبه محفوظ فى بداية (العائش فى الحقيقة) عام 1985: (وُلدت الرغبة فى أعقاب نظرة مفعمة بالإثارة، والسفينة تشق طريقها ضد التيار الهادئ القوى فى أواخر فصل الفيضان. بدأت الرحلة من مدينتنا سايس ماضية جنوبًا إلى بانو بوليس لزيارة أختى التى استقر بها الزواج هناك. وذات أصيل مررنا بمدينة غريبة. تطل من أركانها عظمة غابرة، ويزحف الفناء بنهم على جنباتها وأشيائها... أجلتُ فيها البصر فانقبض صدرى، وهرعت إلى أبى حيث يسترخى على أريكة فوق المنصة مجللا بشيخوخته وسألته: ما شأن هذه المدينة يا أبي؟ فأجاب دون تأثر: مدينة المارق، المدينة الكافرة الملعونة يا مرى مون).

أرأيت الفرق؟ هنا نثر رشيق عذب يتكئ على معمار لغوى أنيق حلو الإيقاع. ولعلك لاحظت أن صاحب نوبل أدار الحوار بين الشاب وأبيه باللغة الفصحى البسيطة بلا ابتذال، فلا لفظ غليظ، ولا جملة سوقية خشنة.

باختصار.. أكاد أزعم أن نجيب محفوظ أفضل من كتب النثر العربى فى الألف عام الأخيرة، وغزارة إنتاجه وعمره المديد وموهبته الخارقة.. كل هذا جعله بحق (قيصر الرواية العربية) كما وصفته قبل ربع قرن.