رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

«سبارسجي»، تلك الكلمة كفيلة برسم صورة ذهنية شاملة عن الشخص الموصوف بها، صورة سلبية تدل على الضياع، صورة العيل الصايع «التلفان الخيبان»، صورة الرجل الذى يبيع كرامته من أجل رغبة لا يملك ثمنها، فيسير بحثًا عن إشباع «مزاجه» تحت أقدام الناس، يلملم بقايا رغباتهم المتناثرة بعد أن داست عليها الأحذية، فيلتقط «السبارس» وهى بقايا السجائر من هنا وهناك، تلك الصورة السلبية العالقة فى مخزونك الفكري كانت فى يوم من الأيام تجارة رابحة تدر دخلًا كبيرًا لأصحابها، تجارة لها أسواقها و«معلموها» أمثال المعلم يونس، وعلى شلضم، وحسن مبروك فى بولاق، وبهلول فى سيدنا الحسين، وسلامة والحاجة زينب فى إمبابة، تجارة لها أسعارها وموردوها وزبائنها وبورصتها، وإليكم تفاصيل تجارة «السبارس».

منذ مائة عام تقريبًا كانت فى مصر عدة أسواق كبيرة لتجارة أعقاب السجائر، فكان هناك سوق فى إمبابة، وآخر فى سوق العصر ببولاق وكان يمثل مركزًا تجاريًا كبيرًا لهذه «السبارس»، وكانت هناك أسواق أخرى فى السيدة زينب والحسين ومنطقة الإمام لم تكن كبيرة مثل سابقيها، ولكن كانت تملك التأثير على سعر سوق «السبارس».. فكلما زاد العرض انخفضت الأسعار.

وتصف تقارير صحفية عام 1930 تجار «السبارس» والذين يقومون بعملية توريد تلك «الأعقاب» بعد جمعها ولمِّها من الشوارع، بأنهم فئة لا ترتاح إليها النفس ولا تطمئن إلى منظرها، وكأنهم صبوا فى قالب واحد من الفظاظة وقسوة المعاملة والكذب، وغالبيتهم يتسترون تحت هذه التجارة ليزاولوا تجارة أشد خطرًا على الأفراد والجماعات وهى تجارة المخدرات.. وأعتقد أنه من هنا جاءت تلك الصورة السلبية لكلمة «سبارسجي».

كانت روح المنافسة بين موردي تلك «السبارس» قوية فلا تكاد تغرب الشمس إلا ويكون بينهم عراك عنيف، ولمَ لا وكان أجر الواحد منهم  لا يقل عن ثمانية قروش في اليوم، وكان لكل من لمامى «السبارس» دائرة خاصة به، وعندما يشذ بعضهم عن القاعدة ويتخطى منطقته إلى غيرها؛ يتعرض أحيانًا للضرب من منافسيه.. تجارة مثل غيرها تحكمها الغيرة والنظام والعمل والبحث عن الأرباح وفرض السيطرة بالقوة والانتقام إذا لزم الأمر!  

كان الأطفال وصغار الصبية هم العامل الأول والأقوى لعمليات التوريد، ويأتى بعدهم الأكثر خبرة ممن لهم معرفة ببعض فراشى المكاتب الحكومية والمقاهى والبنوك، فيحصلون منهم على كميات كبيرة من «السبارس».. و«الرزق يحب الخفية».

بعد جمع «السبارس» تأتى الخطوة الأهم وهى عملية التنظيف، فبعد أن تتكدس لدى التاجر أكوام «السبارس» يستأجر بعض الصبية لإخراج الورق وإبعاده، ثم يتم تنظيف الدخان من الأقذار والأوحال العالقة به، بعدها  يوضع الدخان فى غرابيل، ويرش عليه قليل من الماء ويترك لحرارة الشمس مدة قليلة، ثم يوضع فى أكياس كبيرة من الخيش، وغالبًا يكتفى الصبية بنزع الأوراق العالقة فقط، ويبقى الدخان ملوثًا قذرًا تفوح منه روائح كريهة.. «مَشّى حالك يا أستاذ حد شايف حاجة»!  

الأخطر فى تلك التجارة هو عملية التزييف والتزوير، إذ يلجأ بعض التجار إلى استيراد ورق سجائر مشابه لورق السجائر الأصلية «الفابريكة»، ثم يصنعون علبًا مزيفة لهذه الأنواع «الفابريكة»، ثم يضعون السجائر المقلدة فى العلب المزيفة والمضروبة ويتم بيعها مرة أخرى..  منطق الغشاشين والفهلوية فى كل زمان ومكان تحت ستار التجارة شطارة!

الغريب أن مدخنى تلك السجائر المصنوعة من «السبارس»  لا يمكنهم أن يستبدلوها بغيرها من الأنواع الأعلى جودة مهما ارتقى نوع الدخان.. وهنا تأتى العادة والتعود على السيئ والقبيح والرديء ليصبح مقياساً للجودة عند البعض!   

فى النهاية.. لا أعرف لماذا كتبت عن هذه التجارة، ربما خوفاً من عودتها مرة أخرى بعد الارتفاع الجنوني الذي سيطر على أسعار سوق الدخان، لنجد بعدها من يلملم أعقاب السجائر من الشوارع، ومن تحت أقدام رواد المقاهي ومكاتب الأفنديات، ثم نري من ينادي بصوت مسموع: «سبارس للبيع»!

[email protected]