امرأة وضعت بصمتها في تاريخ مصر الحديث، وخلدت اسمها كرمز للحرية والكرامة للمرأة المصرية والعربية كلها، هى هدى شعراوي، أو نور الهدى محمد سلطان الشعراوي.
ولدت هدى في 23 يونيو 1879 في المنيا بصعيد مصر لعائلة أرستقراطية مرموقة، وتربت في مجتمع محافظ، ولكنها منذ صغرها كانت مختلفة عن كل من حولها.
تلقت تعليما متميزا، أتقنت لغات متعددة، وامتلأ عقلها بالمعرفة، ومع ذلك، لم يكن التعليم وحده ما صقل شخصيتها، بل كانت تجاربها الشخصية وقيود المجتمع الذي عاشت فيه المحرك الرئيسي لإرادتها وتطلعاتها.
في سن الثالثة عشرة، اضطرت للزواج من ابن عمها في خطوة تقليدية في مجتمعها، لكن هذه التجربة لم تكسر روحها، بل أعطتها مساحة من الاستقلالية بعد انفصالها عنه لعدة سنوات، وهو ما منحها فرصة لإكمال تعليمها، والتعرف على العالم خارج جدران الحريم، لتتعلم الحرية على طريقتها.
وتكتسب القدرة على أن تكون صوتا لكل امرأة لم يسمح لها بالكلام من قبل، هدى لم تكن فقط متعلمة، بل شاعرة ومثقفة، تعرف حقوقها وتفهم واجباتها، وتستطيع أن ترى ما هو أبعد من حدود مجتمعها الصغير.
لكن هدى شعراوي لم تكتف بالتحصيل العلمي فقط، بل امتدت خطاها إلى قلب السياسة والمجتمع، في ثورة 1919، قادت هدى أول تظاهرات نسائية ضد الاحتلال البريطاني، وأثبتت أن المرأة المصرية يمكن أن تكون قوة لا يستهان بها، وأن صوتها يمكن أن يهز التاريخ.
أسست بعد ذلك اللجنة المركزية للسيدات في حزب الوفد وترأستها، لتكون من أوائل النساء اللاتي دخلن ساحة السياسة بشكل مباشر. ومع مرور الوقت، لم تتوقف طموحاتها عند حدود السياسة الوطنية، بل أسست الاتحاد النسائي المصري في 1923، لتصبح أول رئيسة له، وتضع حجر الأساس للحركة النسوية في مصر، وتفتح الطريق أمام الأجيال القادمة لتكمل مسيرتها.
الخطوة التي اشتهرت بها شعراوي، والتي أثارت دهشة المجتمع في حينها، كانت خلعها الحجاب علنا بعد وفاة زوجها، لم يكن الأمر مجرد رمزية، بل كان إعلانا صريحا بأن المرأة لها الحق في اختيار حياتها، وأن تقاليد المجتمع لا يمكن أن تقيد إرادتها.
هذا الفعل البسيط بالنسبة للبعض، كان ثورة بكل معنى الكلمة، وألهم نساء مصر للانخراط في الحياة العامة والمطالبة بحقوقهن. هدى شعراوي لم تكف عن العمل عند هذا الحد؛ فقد مثلت مصر في مؤتمرات نسائية دولية، وساهمت في تأسيس الاتحاد النسائي العربي، لتكون صوت المرأة المصرية والعربية في المحافل الدولية.
ما يميز هدى شعراوي عن غيرها ليس فقط أعمالها السياسية والاجتماعية، بل رؤيتها العميقة لمستقبل المرأة والتعليم، أسست مدارس للفتيات، وسعت لتحسين التعليم، وناقشت قضايا الأحوال الشخصية، لتمنح المرأة حقها في حياة كريمة ومستقلة.
كانت تؤمن أن تمكين المرأة يبدأ من التعليم، وأن كل خطوة نحو المعرفة هي خطوة نحو الحرية. كذلك كانت رائدة في العمل الخيري، فأنشأت مراكز خدمات اجتماعية للنساء والأطفال، واعتبرت أن خدمة المجتمع واجب على كل من تمتلك القدرة على العطاء.
هدي شعراوي لم تكن مجرد شخصية تاريخية، بل كانت رمزا حيا للتحدي والمقاومة، كل خطوة قامت بها، كل منظمة أسستها، وكل كلمة نطقت بها كانت صرخة في وجه التقاليد التي حاولت كبح طموح المرأة المصرية.
ومن خلال هذه الأعمال، رسمت خريطة طريق لكل امرأة تسعى لتحرير نفسها ومجتمعها، وأثبتت أن التغيير الحقيقي يبدأ بشخص واحد يؤمن بالعدالة والمساواة.
اليوم، بعد مرور أكثر من سبعين عاما على وفاتها، يظل إرث هدى شعراوي حيا في الاتحاد النسائي المصري وفي كل جهد نسوي يسعى لتحقيق المساواة.
ومع ذلك، ما زالت قصتها غير معروفة جيدا للشباب، وهو ما يجعل من واجبنا أن نذكرها، نستلهم منها، وننقل للأجيال القادمة أن التغيير ممكن، وأن المرأة المصرية قادرة على أن تكون رائدة ومبدعة وقيادية، فهي لم تكن مجرد امرأة، بل كانت أيقونة، وملهمة، وصرخة أمل لكل من يؤمن بحقوق المرأة وكرامتها.
إن الحديث عن هدى شعراوي اليوم ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل هو دعوة للتفكير، للعمل، والمطالبة بالحقوق، لتستمر المسيرة التي بدأت بها بكل شجاعة وإصرار.
وهى تؤكد لنا أن المجتمع يمكن أن يتغير عندما تؤمن امرأة بقوة إرادتها، وأن الأجيال القادمة لن تعرف حدودا لطموحاتها إذا اقتدت بمن ساروا على دربها، فكل خطوة نحو الحرية، وكل مطلب مشروع للمرأة، يحمل جزءا من روح هدى شعراوي وإرثها العظيم.