مصطفى النحاس باشا، ذلك الزعيم الذي حمل شعلة الوفد بعد رحيل سعد زغلول، كان أحد أبرز أعمدة الحياة السياسية في مصر الحديثة.
لم يكن مجرد سياسي يجيد المناصب والوزارات، بل كان رمزا لقوة الدستور ووفاء لمبادئ الحرية والعدالة التي كان يؤمن بها منذ بدايات نشاطه الوطني.
كان صديقا مقربا لسعد زغلول، رفيق دربه في نضال طويل، وكان اسمه مرتبطا تماما بسياق الاعتقالات والنفي التي عانى منها الوطن في تلك الحقبة العصيبة، إذ تم نفيه مع سعد في النفي الثاني إلى سيشل، ليظل مثالا للثبات والإصرار على المبادئ حتى في أقسى الظروف.
دوره في الثورة لم يأت من فراغ، بل كان نتيجة طبيعية لمسيرة طويلة من الكفاح السياسي الملتزم، عاد النحاس إلى مصر ليجد نفسه أمام مسؤولية ضخمة، فهو لم يكن مجرد زعيم خلف سعد زغلول، بل أصبح بعد ذلك رمزا للوفد، ووزيرا ورئيس وزراء في فترات حرجة، يحمل على عاتقه مهمة تحقيق التوازن بين طموحات الشعب ومتطلبات الدولة.
كان يعرف جيدا قيمة الدستور، وكان يسعى دائما ليجعل من دستور 1923 قاعدة صلبة لكل خطواته السياسية، وهو دستور يمثل إرادة المصريين ويؤكد حقوقهم وحرياتهم، وكان النحاس ينظر إليه ليس كوثيقة قانونية فقط، بل كرمز للكرامة الوطنية والسيادة المصرية.
عندما عاد إلى برلمان 1926، أثبت النحاس أنه لم يكن مجرد اسم كبير في التاريخ، بل زعيم قادر على مواجهة تحديات العصر، في انتخابات برلمان 1927، فاز برئاسة المجلس، وهو موقع يضعه في قلب صناعة القرار ويمنحه فرصة لتشكيل مستقبل السياسة المصرية.
لم تكن هذه المناصب مجرد ألقاب، بل كانت مسؤوليات جسام واجهها النحاس بحكمة وإخلاص، محافظا على الوفد كقوة سياسية فاعلة، وموفرا الأرضية لمصر الحديثة لتثبت وجودها وسط صراعات الداخل والخارج.
مصطفى النحاس باشا لم يكن مجرد رئيس وزراء يتنقل بين الوزارات، بل كان زعيما يعكس الروح الوطنية في أسمى صورها، تولى رئاسة الحكومة عدة مرات قبل عام 1952، وفي كل مرة كان حضوره السياسي علامة مضيئة، يحمل على عاتقه مسؤولية استقرار الوطن واستمرار نهجه الديمقراطي.
كان يمثل الوفد، الحزب الذي أصبح رمزا للثورة والحرية، ويعيد بذكاء حيوي وبثقة شعبية التوازن بين طموحات الشعب وبين الضغوط السياسية المختلفة.
كل فترة تولى فيها رئاسة الوزراء كانت شهادة على قدرته على القيادة، ورؤية عميقة في صنع القرار، وكان دائما يضع مصلحة الوطن فوق أي اعتبار شخصي أو حزبي.
من يقرأ تاريخ مصطفى النحاس باشا يجد فيه مثالا للوفاء لمبادئ الحركة الوطنية، ليس فقط في كلماته وأفعاله، بل في حياته كلها، صموده أمام النفي، وحرصه على العودة إلى مصر للعمل السياسي، وإصراره على الحفاظ على قوة الدستور، كلها أمور تجعل منه شخصية تتجاوز الزمن.
كان قائدا يعرف كيف يتحرك بين تفاصيل السياسة دون أن يفرط في مبادئه، وكيف يوازن بين الضغوط الداخلية والخارجية لصالح مصر وشعبها.
لم يكن مجرد سياسي محنك، بل كان رمزا لروح مصر التي لا تنكسر، لشعب يؤمن بحقوقه وكرامته، ولتاريخ يحتاج إلى قادة حقيقيين يتركون بصمة لا تمحى.
الحقيقة أن الحديث عن مصطفى النحاس باشا يعني الحديث عن فصل مهم من تاريخ مصر الحديث، عن قائد وضع نفسه دائما في صف الشعب، عن زعيم لم يفرط في مبادئه حتى في أصعب اللحظات، عن شخص جعل من الوفد رمزا للحرية والديمقراطية، عن رجل عاش ليبني مصر الحديثة ويثبت أن الوطنية ليست كلمات على الورق، بل أفعال وصمود وإخلاص.
وحتى بعد مرور كل هذه السنوات، يظل اسمه مرتبطا بكل ما هو شجاع ونزيه في السياسة المصرية، وكل ما يذكرنا بأن مصر عبر تاريخها تحتاج دائما إلى قادة مثل النحاس، يجمعون بين الحكمة والجرأة، بين الوفاء للمبادئ والقدرة على الإدارة، بين الحلم الوطني والعمل الجاد.
مصطفى النحاس باشا، بهذا المعنى، ليس مجرد شخصية تاريخية، بل نموذج حي لكل من يريد أن يفهم معنى الوطنية الحقيقية، معنى الالتزام بالدستور، معنى القيادة التي تتجاوز المناصب لتصبح رسالة للأجيال، رسالة تقول إن مصر تستحق القادة العظماء، القادة الذين يضعون الوطن دائما فوق كل اعتبار، ويصنعون التاريخ بأيديهم قبل أن يكتب لهم على الورق.