رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حتى نلتقى

 

 

 

ستظل الحروب أفضل الأوقات المناسبة للتلاعب باللغة، واستثمار مفرداتها وتراكيبها إلى أقصى حد، فالحرب تؤدى إلى الموت، ولا يمكن لمن يقررون إزهاق أرواح الناس أن يقدموا على ذلك دون سند شرعى يبرر أفعالهم، وهذا السند مكنون فى اللغة وحرارتها وصدقها وكذلك مستتر فى مكرها ومكائدها.

منذ فجر التاريخ، وحتى الحرب المستعرة الآن بين روسيا وأوكرانيا، واللغة بتلويناتها المختلفة تتصدر المشهد، حيث يكتشف المرء مع الوقت أن معظم الذين أشعلوا النيران يقولون ما لا يفعلون، إذ يحشدون شعوبهم وأنصارهم بجيوش من العبارات الرنانة بجانب جحافل الدمار والنيران، سواء حدث ذلك فى أزمنة الخيول والسهام والنبال، أو فى أوقات الطائرات والصواريخ والقنابل. فالنيران ليس لها أن تندلع دون أن تعانق حزمة من الكلمات الباذخة والمفردات الشاهقة.

لاحظ من فضلك الفروق الشاسعة بين المعانى والمفردات حين يقول الإعلام المناصر لأوكرانيا (الحرب على أوكرانيا)، أو (الغزو الروسى على أوكرانيا)، بينما يقول الإعلام الروسى (العمليات الروسية فى أوكرانيا)، فى حين يردد إعلام آخر متعاطف مع الروس (العمليات العسكرية فى أوكرانيا)، فلا ذكر هنا لحرب أو غزو أو هجوم، وهى مفردات قاسية تدين من يرتكبها، أما الرئيس الأمريكى بايدن فيصف الرئيس الروسى بوتين بأنه مستبد وديكتاتور، مستندًا فى ذلك على تاريخ الاستبداد فى روسيا منذ القياصرة حتى البلاشفة، فى حين يصف الأخير الغرب كله بأنه (إمبراطورية الكذب)، متكئًا على سلسلة من الأكاذيب الفاضحة التى يروج لها الأمريكان من قرن إلى آخر. وهكذا تستحوذ اللغة بمعانيها المختلفة على عقول الملايين ووجدانهم فتحدد الأنصار والأعداء، ولكن، لأن أمريكا والغرب يملكون منظومة إعلامية جبارة تطورت على مدار عقود، فإنهم يربحون المعارك إعلاميًا على الأقل، ويثب العالم محتجًا ضد (الغزو الروسى لأوكرونيا)... وهأنذا أردد أيضًا كلمة (الغزو).

حتى الكتب المقدسة تعاملت مع الكلمة بكل وقار واحترام وتقديس، فأول آية من إنجيل يوحنا تقول: (فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله)، وفى القرآن الكريم يقول الحق سبحانه وتعالى فى سورة البقرة الآية 37: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التوّاب الرحيم).

اللافت أن الكلمات تناسلت مع التطور التكنولوجى فأنجبت الصور الملونة واللقطات المفعمة بالحركة والحيوية، فصار لدينا مشاهد تتزاوج فيها الكلمة بالصورة، فيرتفع التأثير على المتلقى إلى ذرى غير مسبوقة، ويغدو الملايين من الناس أسرى الإعلام الأكثر مهارة الذى يعرف كيف يصوغ المشاهد المؤثرة المعززة بالكلمات الرنانة.

أرجو ألا يغيب عن حصافة حضرتك أن كلامى هذا لا يعنى أن كل الحروب محشوة بالخبث والمكر والخداع، وأن البارع فى تزيين معركته بالكلمات هو الأحق بالدفاع عنه والوقوف بجانبه، لا... ليست كل الحروب هكذا قائمة على اللعب بالكلمات، إذ إن هناك حروبًا عادلة ينبغى خوضها ببسالة حتى والناس لها كارهون، فحربنا فى أكتوبر 1973 ضد الذين احتلوا بلادنا كانت حربًا مقدسة ضرورية لا مفر من الترتيب لها عسكريًا وسياسيًا ونفسيًا وإعلاميًا.

كما أن الدول التى تلمح تهديدًا لأمنها القومى عليها أن تستعد وتترقب، بل تشرع فى التصدى لأى تهديد، أما الشعوب التى ترزح تحت قبضة احتلال غشيم، فمن المحتم أن تناضل ضد هذا الاحتلال بكل السبل.

يبقى أن أشير إلى أن العنف جزء أصيل فى غرائز الإنسان، وأن الجيران تتعارك وتتصالح، سواء كانوا أسرًا صغيرة يعيشون فى حارة واحدة، أو كانوا دولًا كبرى أو صغرى، فالجيرة بقدر ما تستلزم المؤازرة والمودة، فهى تفجر أيضًا الخلاف والصراع، وما رحلة الإنسان عبر التاريخ إلا مجرد محاولات لترجيح كفة السلام على الحرب.