عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حتى نلتقى

 

 

 

قبل أربعين عامًا، وبالتحديد فى فجر 14 أغسطس من سنة 1981 مات فجأة صلاح عبدالصبور أهم شاعر مصرى فى القرن العشرين، بعد شوقى، ولأن الرجل قد شغفنى حبًا، إذ كنت، ومازلت مفتونا بالكثير من قصائده ومسرحياته، فقد حاولت تقصى ماذا جرى بالضبط ليلة وفاته المباغتة.

من حسن الطالع أننى اقتربت كثيرًا من صديقه الشاعر الرائد المجدد أحمد عبدالمعطى حجازى الذى شهد منزله وقائع الموت البطيء لصاحب (الناس فى بلادي)، وكذلك أحظى بعلاقة صداقة محترمة مع الناقد المفكر الكبير الدكتور جابر عصفور أحد شهود المأساة، أما الناقد المتفرد الراحل الأستاذ فاروق عبدالقادر فقد طلبت منه أن يحكى لى ما جرى بعد أن حققه بنفسه فى اليوم التالى لليلة البغيضة، بينما نقل لى الناقد الكبير رجاء النقاش ما سمعه عن التفاصيل المؤلمة فى ذلك المساء الحزين.

فى شقة حجازى بشارع الحجاز بمصر الجديدة روى لى الرجل القصة هكذا: (دعوت صلاح وأسرته لحضور عيد ميلاد ابنتى، كما دعوت كلا من رسام الكاريكاتير بهجت عثمان وجابر عصفور وأمل دنقل). بدت السهرة لطيفة مترعة بالمودة والشعر، فقد قرأ أمل دنقل بأداء مدهش قصيدة صلاح (أحلام الفارس القديم)، فانفعل بها الجميع، فلما سألت حجازي: (هل ترنم صلاح بإحدى قصائده؟)، فقال لي: (لا... كان متعبًا، فقد جاء من مكتبه بهيئة الكتاب إلى بيتى مباشرة، حتى أنه أرسل سائقه إلى بيته ليأتى له بزوجته وابنتيه). ومع تناول الطعام والشراب ثمل الجميع بالشعر الجميل ولذة النقاش، ثم انطلق من بهجت اتهام موجع: (أنت بعت القضية يا صلاح لتنعم بالمناصب المرموقة وذهب السادات)، فتوتر الجو ونهض صلاح طالبًا أن يستريح قليلا، فاصطحبه حجازى إلى غرفة أخرى، حيث استلقى الرجل منهكا. وقد أرانى حجازى هذه الغرفة التى استقبلت جسد صلاح حيًا لآخر مرة.

المهم... شعر صلاح بالاختناق الشديد، وقال لى حجازي: (والله يا ناصر قررت على الفور طرد بهجت من بيتى إرضاء لصلاح وتخفيفا عنه)، فشعر الرسام بندم شديد وقال لي: (أدخل أعتذر له وأقبل رأسه، بل حذاءه) فرفض حجازى، وغادر بهجت الشقة وصلاح مازال يتنفس!

تدهور إحساس صاحب (الأميرة تنتظر) بجسده المتهالك، فقرروا اصطحابه إلى مستشفى هوليوبوليس الذى يبعد نحو 400 متر عن بيت حجازى، وهكذا هبط صلاح خمسة أدوار كاملة مستندًا على ذراع صديقه الحميم. (أعرف عذاب الصعود إلى هذه الشقة والنزول منها لأن العمارة محرومة من وجود مصعد، فقد تشرفت بزيارة الأستاذ حجازى مرات كثيرة).

فى ليلة رطبة خالية من النسيم وفى الثانية بعد منتصف الليل تقريبًا سار الموكب المتوتر مشيًا على الأقدام حتى باب المستشفى، الأمر الذى أنهك قلب الشاعر الموجوع أيما إنهاك، فصرخ مستغيثا متعجبًا: (أحمد... أحمد... أنا لا أرى شيئا)، فاحتضنه حجازى بقلب يقطر دمًا، بينما قال لى دكتور جابر: (هرولت أنا وأمل يا ناصر مذعورين، فصعدنا سلالم المستشفى صارخين باحثين عن طبيب)!

بعد دقائق مات صلاح، ففاحت فى سماء القاهرة روائح حزن عميق وحسرة موجعة، وقد اتفق كل من سمعت منهم تفاصيل المأساة على الملخص الذى ذكرته، لكن فاروق عبدالقادر فاجأنى بقوله (إن صلاحًا كان يضع أحيانا قطعة صغيرة من الأفيون تحت لسانه لتمنحه المزيد من النشاط، وربما يكون قد فعل ذلك فى هذا المساء المكروه، فتأثر قلبه كثيرًا). أما رجاء النقاش، فقال لي: (لا أعرف شيئا عن موضوع الأفيون هذا، لكن حجازى أخطأ بدعوة بهجت إلى هذه السهرة).

أما أنا فقد التقيت صلاح فى مكتبه فى فبراير 1981، وتلك قصة أخرى.