رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حتى نلتقي

 

 

أجل... لولا «الطبيخ» ما تطور عقل الإنسان، ولولا الطعام المطهو ما تمكنت البشرية من الانتصار على الوحوش والضوارى والعواصف والزلازل والبراكين التى تحدق بها طوال ملايين السنين، فالطعام المطبوخ، خاصة اللحم، هو الذى جعل الإنسان مدججًا بأسلحة الذكاء، تلك الأسلحة التى عاونته على الانتقال من غابات التوحش القديمة إلى بساتين التحضر الحديثة.

هذا ليس كلامي، وإنما كلام عالم الأنثروبولوجيا الحياتية البريطانى الدكتور ريتشارد رانجهام (مولود فى 1948) وأوضحه فى كتابه المدهش (قدحة النار... دور الطهى فى تطور الإنسان)، وقد صدر الكتاب عن دار كلمة بأبوظبى بترجمة متميزة للمترجم العراقى فلاح رحيم.

ينهض هذا الكتاب على فكرة جوهرية لم يلتفت إلى فرادتها أحد من قبل، وهى أنه فى اللحظة التى سيطر فيها الإنسان على النار، أى تمكن من إشعالها وإطفائها وقتما يريد، فى تلك اللحظة بالضبط هجر الإنسان الطعام النيء الذى ظل يقتات عليه نحو مليونى سنة مثله مثل باقى الثدييات، إذ عرف آنذاك الطريق الساحر إلى إنضاج الطعام على النار.

ترويض النار ومعرفة كيفية إشعالها وإطفائها جعلا الإنسان القديم يغادر النوم فوق الأشجار؛ لأنه تجمّع فى حلقات حول النار التى وهبته النور والدفء والحماية من الحيوانات المفترسة، فتغير تشريح جسمه وفقد خاصية التسلق مع مرور الوقت.

وفقًا للمؤلف الذى نال درجة الدكتوراه فى علم الحيوان من جامعة كمبردج عام 1975 عن أطروحته (البيئة السلوكية للشمبانزى فى محمية جومبى بتنزانيا) علمًا بأن نحو 97% من جينات الإنسان هى نفسها جينات الشمبانزي، أقول وفقًا للمؤلف فإن الطعام المطهو منح الإنسان عدة فوائد مدهشة سأقف هنا عند أهم اثنتين:

الأولى: الطعام المطبوخ يهب الإنسان طاقات أكبر من الطعام النيء، كما يعمل على تقليل حجم أعضاء الجهاز الهضمى كله مثل الأسنان والفم والفكين والمعدة والأمعاء، لكونه ليّنًا سهل التقطيع والهضم فلا حاجة إلى جهاز هضمى كبير، وبالتالى تحولت الطاقة الزائدة من تناول هذا الطعام المطبوخ إلى مخ الإنسان، فازداد حجمه بشكل كبير فى غضون مليونى سنة ليبلغ نحو 1400 سم مكعب مع الوصول إلى مرحلة الإنسان العاقل قبل 200 ألف سنة بعد أن كان حجم المخ 450 سم مكعب فقط عندما كان يتناول الطعام النيء فقط.

أما الفائدة الثانية من السيطرة على النار وإعداد الطعام المطبوخ، وأكرر خاصة اللحم، فتمثلت فى نشأة الأسرة، فالمرأة التى سيطرت على النار بدأت تطبخ النباتات والجذور التى تجمعها لإطعام طفلها، لذا كانت فى حاجة ماسة إلى حماية هذا الطعام المطبوخ لذيذ الطعم من قراصنة الطعام وهم الذكور الهائمون فى الأحراش والغابات، فانتقت منهم واحدًا ارتاحت له وعقدت معه الصفقة التاريخية: احمِنى واحمى طفلى وطعامى وسأطبخ لك اللحم الذى ستصطاده ومعه النباتات والجذور التى سأجمعها، ولن أهب جسدى لأحد غيرك وسأربى أطفالك. هكذا رسم المؤلف كيفية نشأة الأسرة، وبمرور الوقت تكونت الأسر المتجاورة ومن ثم المجتمعات الصغيرة.

اللافت للانتباه أن المؤلف لاحظ بذكاء أن كلمة سيدة (lady) مشتقة من الكلمة الإنجليزية (halefdige) أى (عاجنة الخبز)، بينما تأتى كلمة سيد (lord) من (hlaef-weard) أى (حامى الخبز).

بجهد خارق وبحث دؤوب فى العديد من ثقافات الجماعات البشرية المختلفة حول العالم توصل المؤلف إلى (يبدو أن قاعدة الطهى المنزلى من اختصاص النساء ثابتة على نحو يثير الدهشة)، إذ بات فى جينات المرأة فكرة إعداد الطعام رغم أن كثيرًا من الرجال يجيدون الطهى.

باختصار... هذا كتاب بالغ الأهمية وبقدر ما هو ممتع، فهو يفجر العديد من الأسئلة الذكية ويطرح الكثير من الآراء الجريئة.