رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

السد الذى أقامته إثيوبيا على النيل الأزرق أصبح مصدرًا لخلافات خطيرة بينها وبين كل من مصر والسودان شريكتيها فى مياه هذا النهر، وكان يمكن لهذا السد أن يكون مجالًا لتعاون ثلاثى يتسع نطاقه تباعًا ليشمل مجالات أخرى تعود بالفائدة على جميع الشركاء.

ولكن إثيوبيا منذ البداية اختارت المواجهة بدلًا من التعاون. أعلنت عن البدء فى بناء السد دون إخطار أو تشاور مع شريكتيها بالمخالفة لتعهداتها الدولية. وتزامن هذا الإعلان المفاجئ مع تدشين حملة إعلامية اختلطت فيها الدعاية للمشروع بإظهار عداء سافر لمصر التى كانت تعانى فى هذه الفترة من حالة ارتباك شديد إبان ثورة يناير 2011.

وعندما أقبلت إثيوبيا على المشاركة فى مفاوضات ثلاثية مع شريكتيها أعلنت رفضها لأى اتفاق ملزم يتعارض مع ادعائها السيادة على النيل الأزرق دون أى اعتبار للمصالح الحيوية لشريكتيها فى مياه هذا النهر الدولى.

وفى ذلك دليل قاطع على أنها لم تنخرط فى هذه المفاوضات الثلاثية إلا كسبًا للوقت حتى تتمكن من استكمال البناء وإتمام مراحل ملء الخزان خلف السد، عامدة من ناحية أخرى إلى إطالة أمد هذه المفاوضات ما أمكنها ذلك، حتى تصل إلى ما تريده؛ أى إلى فرض الأمر الواقع على كل من مصر والسودان، إلا أن الدولتين لا يمكنهما قبول هذا الأمر الواقع لأنه يمثل إخلالًا جسيمًا بأمنهما القومى. مجمل القول إن انفراد إثيوبيا بشئون هذا السد بعد اكتماله وانفرادها بالملء والتشغيل دون مشاركة فعلية لمصر والسودان فى إطار اتفاق دولى ملزم محاط بضمانات تكفل تنفيذه يعنى امتلاك إثيوبيا سلاح دمار شامل يهدد السودان بالموت غرقًا ومصر بالموت عطشًا. كما أن إصرارها على هذا الانفراد يعنى بالضرورة سد أفق التعاون وفتح أبواب صراع بين إثيوبيا وكل من مصر والسودان وهو صراع قد يتخذ أشكالًا متعددة ولكنه فى جميع الأحوال يشكل عقبة فى وجه التنمية التى تدعى إثيوبيا أنها أقامت السد من أجل تحقيقها. فماذا تريد تحقيقه من وراء هذا الصراع؟ ربما الهيمنة المائية وهى هيمنة تامة.

لا شك أن لاختيار الحكومة الإثيوبية طريق المواجهة بديلًا عن طريق التعاون المتاح والمثمر أسبابًا يبدو لنا منها سببان.. الأول متعلق بظروفها الداخلية، أن شعب هذه الدولة يتكون من عرقيات متعددة ومتنافرة مما يجعل وحدته الوطنية هشة معرضة لاحتكاكات واحتقانات كثيرًا ما يتولد عنها نشوء حركات انفصالية، وهو ما يغرى الحكام بافتعال أزمات خارجية واختلاق عدو خارجى بقصد استنفار الشعور الوطنى لتجاوز المشكلات الداخلية وهو أسلوب اعتمده الطغاة منذ قديم الزمان.

والسبب الثانى تاريخى وهو الماضى الإمبراطورى للحبشة الذى يداعب الحنين إليه مشاعر الحكام ويستدعى فى أذهانهم أحلامًا توسعية على حساب جيرانها ويحبب إليهم المغامرات الخارجية فيما يشبه الحالة التركية ولا يقل عنها خطورة وبعدًا عن الواقع القائم.

ولكن هذا الأسلوب غالبًا ما يؤدى إلى تفاقم الأزمات بدلًا من تجاوزها إذ تظل المشكلات الداخلية قائمة، بينما تؤدى الكلفة العالية للمغامرات الخارجية إلى إضعاف قدرة الدولة على إصلاح الأوضاع الداخلية. ولعل حكومة أبى أحمد قد بدأت تشعر بخطورة المنهج الذى اتبعته، إذ إنها فوجئت بتمرد التيجراى وهو أحد أعراق الشعب الإثيوبى الذى يسكن أحد الأقاليم الفيدرالية فى إثيوبيا الذى كان يحتل أبناؤه الصدارة فى الحكم منذ الإطاحة بنظام هيلا مريام الشيوعى. ثم جاء أبى أحمد من عرق آخر وبدأ فى استبعاد أبناء التيجراى من أجهزة الدولة وخاصة القوات المسلحة مما دعاهم للتمرد فلم يتردد فى مواجهتهم بالقوة العسكرية واستطاع أن يسترد السيطرة على بعض مدن الإقليم، إلا أن الصراع لم ينته وأخذ شكل حرب العصابات وقد يتسع وتدخل إليه أعراق أخرى هى الآن فى موقف الترقب. كما يمكن أيضاً لقوى خارجية أن تساعد هذا الطرف أم ذاك خاصة أن علاقات إثيوبيا بجيرانها لم تكن دائمًا قائمة على مبدأ حسن الجوار، بل إنها الآن تفجر صراعًا حدوديًا مع السودان. أى أن الوضع فى إثيوبيا يحتمل مزيدًا من التدهور ويفتح الطريق إلى فوضى تعم البلاد، مما يجعل أمن السد الضخم وسلامته فى مهب الريح ويهدد السودان ومصر بأكبر الأخطار.

هذا بالإضافة إلى تأثير هذه الصراعات على الأوضاع فى إقليم القرن الأفريقى القابل لمزيد من الاشتعال مع أهميته الاستراتيجية للعالم شرقه وغربه.

هذه التداعيات البالغة الخطورة وراء إصرار الدبلوماسية المصرية على الوصول إلى اتفاق ملزم ومضمون عن طريق استمرار المفاوضات الثلاثية تحت سمع وبصر المجتمع الدولى بما فى ذلك وضع الأمر برمته تحت نظر مجلس الأمن باعتباره يهدد الأمن والسلم الدوليين. ومازلنا نأمل أن تؤتى هذه المفاوضات ثمارها المرجوة فى الإطار الأفريقى الحالى. وحتى إذا ألجأتنا الأحداث إلى سلوك دروب أكثر وعورة فإن جميع الطرق تعود بنا إلى مائدة المفاوضات بعد أن يدفع الجميع بنسب متفاوتة ثمن التعنت الإثيوبى، ولا شك أن إثيوبيا ستكون أكثر الخاسرين لأنها ستجمع إلى الفشل فى تحقيق وحدتها الوطنية، فشلاً فى الهيمنة على جيرانها. فلا مجال للأطماع التوسعية والأحلام الإمبراطورية فى الواقع القائم.

إن صيغ التعاون هى التى تسمح بمواجهة التحديات الكبرى التى يواجهها عالم اليوم. وطريق التعاون بشأن هذا السد الإثيوبى ما زال متاحًا إذا صدقت النية. فلا تعارض بين أن تحصل منه إثيوبيا على الطاقة الكهربائية التى تحتاجها وأن تحصل كل من مصر والسودان على حصتيهما من المياه. إذ إن الأصل أن تمر هذه المياه بالتوربينات فتديرها ثم تمضى فى مجراها حتى المصب. ومن ناحية أخرى فإن إثيوبيا لديها وفرة من المياه، حيث يبلغ رصيدها السنوى 930 مليار متر مكعب، بينما جارتاها أصحاب حق تاريخى ومصلحة حيوية فى حصتيهما فى مياه النيل الأزرق. أما مسألة الجدول الزمنى لملء الخزان خلف السد وطريقة تشغيله بحيث تحمى سلامة البناء وانتظام تدفق المياه وفقًا لحجم الفيضانات السنوى فهذا بذاته هو مجال التعاون الفنى بين الشركاء الثلاثة.

وقد يتم هذا التعاون عن طريق جهاز فنى مشترك يتولى الأعمال اللازمة لضمان سلامة السد وحسن أدائه لوظائفه من كافة النواحى الفنية بما يحقق مصالح الشركاء على الوجه الأمثل، أسوة بما حدث فى أوروبا فى القرن التاسع عشر بشأن تنظيم الملاحة فى الأنهار الدولية ابتداء بنهر الدانوب وقد أصبح هذا الجهاز الفنى الدولى المشترك تاريخيًا أول نموذج للمنظمات الدولية التى انتشرت فى القرن الماضى. ولو قدر لهذا التعاون أن يتم لفتح السبيل إلى تجمعات مماثلة حول أنهار أفريقية أخرى فى زمن يتوقع فيه المراقبون اشتعال حروب مياه فى القارة وفى غيرها بسبب التغيرات المناخية والانفجار السكانى.

ولا شك أن هذا المسار كان الأفضل للجميع والأقرب إلى تحقيق ما تصبو إليه القارة الأفريقية من تعاون وتضامن يؤدى إلى إطفاء البؤر الملتهبة وتجفيف منابع الإرهاب وتوفير مناخ ملائم للتنمية التى بدأت عجلتها تدور فى بعض البلاد الأفريقية مبشرة بمستقبل مشرق تحتل فيه القارة الفتية مكانها تحت الشمس.

وما دام طريق التعاون متاحًا، فلماذا الجنوح؟ نحن الدول النامية لا يجوز لنا أن نحاكى الأغنياء الذين يستطيعون تحمل تكلفة تجربة كل الحلول الخاطئة قبل الوصول إلى الحل الصحيح.. والحكيم حقًا من بكبوة غيره اتعظ.