عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 فى مجموعته القصصية «حادثة شرف»، كتب الدكتور يوسف إدريس واحدة من أبدع قصصه من حيث المعنى والدلالة، بعنوان «طبلية من السماء». بطل القصة هو الشيخ على الذى يصفه إدريس، بأنه قبيح الشكل ،عاطل لا عمل له، ضيق الصدر، وبرغم هذا لم يكن أحد فى بلدته منية النصر بالدقهلية يكرهه، بل كانوا على العكس يحبونه حبا جما، لأنهم يضحكون من نوادره التى يتداولها أهل القرية فيما بينهم، ويتجمعون حوله فى ساعات الراحة والصفا ليستفزوه حتى يغضب، لأن غضبه كان يثير ضحكهم. فهو حين يغضب، تتغير ملامحه ويتحشرج صوته، ويبرطم بأشياء غير مفهومة، فيبدو فى هذه اللحظة مدعاة لضحكات من القلب لأهل القرية، الذين يواصلون لعبة استفزاره، ويثيرون غضبه ويضحكون، حتى تنفض الجلسة، وكل منهم يمسح دموعه التى انهمرت من فرط الضحك، ويقول له مادحا وهو يغادر الجلسة: الله يجازيك ياشيخ على.

حين ينفرد الشيخ على بنفسه ،يبدأ فى لعن الفقر الذى كان يسميه «أبو أحمد» باعتباره عدوه اللدود فى هذه القرية، فيوجه له شتائمه وغضبه، ويحدثه كما لو كان بشرا من لحم ودم. ولأنه كريم النفس وذو كبرياء، فقد كان يغضب غضبا شديدا إذا ما سأله أحد من أهل القرية قائلا: أبو أحمد عامل فيك أيه النهاردة؟ كان الشيخ على يخجل من الكلام عن فقره، ويحرم نفسه أياما من التدخين على أن يطلب من أحدهم أن يلف له سيجارة. فالخجل كان سمة أساسية فى شخصيته ،برغم قسوة ملامحه وخشونة صوته، وربما بسبب ذلك. ولاهتمامه بنظافته، كان يحرص على أن يحمل معه بشكل دائم أبرة وفتلة لرتق جلبابه إذا ماتمزق، وغسل ثيابه فى الترعة فى مكان ناء وبعيد ‘عن أعين أهل البلدة ،لأنه يبقى عاريا حتى تجف ملابسه، ولذلك ظلت عمامته البيضاء أنظف عمامة فى القرية برغم فقره.

وبعد ظهر يوم جمعة، ذهب الشيخ على إلى الجرن، وهو ميدان القرية، وأعلن بصوت مرتفع يسمعه كل أهل القرية ،أنه سوف يكفر، إذا لم تنزل عليه طبلية من السماء، لأن الجوع قد عضه ،والفقر قد تمكن منه، ولم يأكل منذ أيام ،ولم يدخن منذ أسبوع، والجنة بها عسل ولبن وفواكه «ماباخدش منهم ليه»!

حط الرعب على قلوب أهل القرية وخافوا مما ينطق به الشيخ على من كلمات تغضب الله سبحانه وتعالى، وتؤدى إلى كفره، فتحل على بلدتهم نقمة السماء .لم يستجب الشيخ على لتوسلات حكماء القرية له بالصمت والكف عن الكلام. وقال لهم: أسكت ليه يا بلد دون؟ أسكت لما أموت من الجوع،أسكت ليه؟ خايفين على بيوتكم ونسوانكم وزرعكم.. اللى حداه حاجة يخاف عليها، إنما أنا مش خايف على حاجة، فلا يجد أهل البلدة أمامهم لوقف الشيخ على عن مواصلة التهديد بالكفر سوى أن يتعاونوا جميعا ،بتقديم ما لذ وطاب من أنواع الطعام له، فيتوقف عن التهديد بالكفر.

تذكرت هذه القصة الرائعة ليوسف إدريس ،أثناء متابعة الأزمة العاصفة التى أثارها الإعلامى توفيق عكاشة فى وجه المجتمع المصرى، منذ نجاحه باكتساح فى دائرة طلخا ونبروه بالدقهلية، وحصوله على 94 ألف صوت، وهى أعلى الأصوات لأى مرشح فى الانتخابات النيابية الأخيرة. ومنذ اللحظة الأولى لنجاحه، قرر أن يرشح نفسه رئيسا للبرلمان. وبدأ يطرح برنامجه كرئيس للبرلمان فى فضائية الفراعين التى يمتلكها يوميا حتى قبل أن يبدأ البرلمان عمله، وأعلن أنه صرف ما أمامه وما وراءه على شراء البدل الأنيقة التى جلبها استعدادا لهذا المنصب. ولما خاب أمله فى تقلد رئاسة مجلس النواب، شن حملة ضارية على ائتلاف دعم مصر، ظنا منه أنه وحده من حال بينه وبين تحقيق هذا الهدف المستحيل، وأسماه ائتلاف دعم اللواء سامح سيف اليزل، وقاطع الجلسة التى افتتح فيها الرئيس السيسى عمل البرلمان، وبرر ذلك بأنه طلب مقابلة الرئيس لكنه لم يستجب لطلبه.

صعد عكاشة من حملته على البرلمان ورئيسه، بعد أن تكرر تجاهل طلباته بأخذ الكلمة، وفى المساء يبدأ تصفية حساباته فى قناة الفراعين مع معارضيه فى البرلمان وخارجه، بالشتائم والطعن فى الأعراض والتهديد بكشف مايثبت أنه فضائح فى تاريخهم المهنى، وفى الصباح يبدى أسفه لما بدر منه ويعتذر عنه. وفى هذا السياق ،لم يسلم من حملاته أحد .فقد طالت شتائمه إعلامين وصحفيين ورجال أعمال وبرلمانيين وحزبيين ناصريين ويساريين ووفديين. وفى لحظة من لحظات غضبه وثورته لوح بطلب اللجوء السياسى من ألمانيا. فلما لم يجلب له كل هذا الابتزاز شيئا، ولم يأخذ من البرلمان سوى الاستخفاف بجماهيريته، والاعتذار شبه اليومى لمن طالتهم حملاته التليفزيونية الهوجاء، قرر أن يلقى بالقفاز فى وجه الجميع، ويستقبل السفير الإسرائيلى فى منزله، ويضفى على هذا الدعوة أهدافا وطنية، كالسعى لحل أزمة سد النهضة!

الفرق بين الشيخ على فى طبلية من السماء، وتوفيق عكاشة فى البرلمان، أن الأول أدرك بذكائه نقاط الضعف لدى أهل قريته البلداء، الذين يسخرون من شكله وفقره دون أن يفكروا فى إعانته على تجاوز هذا الفقر، فنجح ابتزازه فى تحقيق هدفه منهم .أما عكاشة فقد وسع من جبهات خصومه، وفتح النار على الجميع بمن فيهم الزعيم جمال عبد الناصر، فخسر حتى من كان يمكن أن يتعاطف معه.

ومع ذلك فإن إسقاط العضوية بهذا الشكل السريع المتهافت عن النائب توفيق عكاشة، هو قرار متعجل ويفتقد لأى حكمة ولايقل هوجا عما فعله هو، وهو فضيحة برلمانية لن يكون هو آخرها، لأنه يعيد للأذهان مشاهد بغيضة لاستقواء الحزب الوطنى المنحل بأغلبيته المصنوعة على رغبات ورضاء الشعب المصرى، ولكن لذلك قصة أخرى!