غرائب وعجائب الاستفتاءات في مصر
انتهي استفتاء السبت الماضي بما له وما عليه وعدنا إلي المربع رقم (1) قبل الاستفتاء وهو الإعلان الدستوري الذي لو كان قد صدر لما كنا في حاجة إلي هذا الاستفتاء أصلاً الذي اتفق فيه الذين قالوا نعم مع الذين قالوا لا في أن الجميع يريدون دستوراً جديداً،
والذي كشف لنا ألاعيب فلول النظام السابق وبعض الانتهازيين من جماعة الإخوان والتيارات الدينية - الذين فاقت انتهازيتهم كل التوقعات فأصبحوا يعتبرون أن الموافقة علي تعديل دستور ساقط وإحيائه واجب شرعي وأمر ضروري لحماية الإسلام والمسلمين!! - والذين استخدموا سلاح اللعب بالدين وفزاعة الاستقرار لإقناع المصريين بالتصويت بنعم لترقيع الدستور، لن نتحدث عن المساجد التي استخدمت لترويع الناس وتصوير رفض الترقيعات الدستورية علي أنه هزيمة للإسلام والمسلمين ومؤامرة صليبية لمحو الإسلام من مصر!!، ولن نتحدث عن الأموال التي أنفقت واللافتات التي علقت والكتيبات التي وزعت من أجل "نعم". كل هذا كان مفيداً.. فقد أكد أن ثورة 25 يناير ما زالت محروسة بالعناية الإلهية، فكما ساهم تباطؤ وتلكؤ النظام السابق وتأخر ردود فعله في تأجيج الثورة، وكما ساهمت موقعة الجمل في حسم الثورة وخلع الرئيس السابق... جاء الاستفتاء لكشف كل الانتهازيين والمتربصين للقفز علي السلطة والمتشوقين لكراسي البرلمان الوثيرة والواقفين بالمرصاد من أجل اختطاف الثورة.
لن نتحدث عن كل ذلك، ولكننا سوف نتحدث عن الاستفتاءات.. كيف تعد وتطبخ بعيداً عن أبناء الوطن لتحدد مصير هذا الوطن، ولا يمكن أن نتحدث عن الاستفتاءات دون أن تتداعي إلي الذاكرة ما حدث في يوم الأربعاء الأسود.. هل تذكرونه؟، في هذا اليوم قامت قيادات من الحزب الوطني تحت حماية أجهزة الأمن وقوات الشرطة - ولأول مرة في تاريخ مصر- باستخدام التحرش الجنسي وتسهيل استخدامه لمجموعات من البلطجية ضد المتظاهرين المعارضين للاستفتاء علي تعديل المادة 76 من الدستور.. إن يوم 25 مايو 2005 سيدخل التاريخ، ليس باعتباره يوما للاستفتاء علي تعديل المادة 76 من الدستور لكي يتم تفصيلها علي الوريث الذي كان يعد له المسرح للجلوس علي عرش مصر، ولكن باعتباره اليوم الذي جري فيه لأول مرة استخدام هذا السلاح الحقير بشكل علني وجماعي في الطريق العام، كانت مجموعة صغيرة من المتظاهرين قد تجمعوا للإعلان عن رفضهم لنص تعديل المادة 76 من الدستور أمام نقابة الصحفيين وضريح سعد زغلول، حين تصدت لهم جحافل من عصابات مأجورة من العاطلين والبلطجية تعرضوا لهم بالضرب المبرح وتعمدوا هتك عرض عدد من الصحفيات والمحاميات والناشطات السياسيات وضربهن وتمزيق ملابسهن والتحرش الجنسي بهن وذلك بقيادة شخصيات معروفة في الحزب الوطني الحاكم، وتحت حراسة وحماية قوات أمن كبيرة حاصرت مبني نقابتي الصحفيين والمحامين ومنعت المتظاهرين من الهروب من بين أيدي المعتدين ورفضت تقديم أية حماية لهم، كل ذلك من أجل أن يمر الاستفتاء علي تعديل المادة 76 من الدستور كما يريد النظام، ودون أن يخرج صوت واحد يقول لا.
الغريب أن عدد الذين تعرضوا لاعتداء بدني أو تحرش جنسي أمام نقابة المحامين وضريح سعد كانوا 25 شخصاً (مثل تاريخ اليوم تماماً)، 13 سيدة وفتاة و12 رجلاً، منهم 6 من الصحفيات، و4 من الصحفيين منهم عضوان بمجلس نقابة الصحفيين، وطبيبتان، ومحاميتان، وأستاذتان بالجامعة، ومهندس، وثمانية من الطلاب والموظفين، وشهد هذا اليوم الاستفتاء رقم 20 منذ بدأت لعنة أو لعبة الاستفتاءات في مصر.
والاستفتاء في مصر نوعان: الأول هو الاستفتاء السياسي والغرض منه معرفة رأي الشعب في قضية معينة أو لإقرار إجراء معين أو معاهدة أو قانون ما أو تعديل دستوري، والنوع الثاني هو الاستفتاء الانتخابي الذي كان موجوداً قبل تعديل المادة 76 من الدستور والغرض منه عرض مرشح وحيد علي المواطنين لاختياره رئيساً للجمهورية.
وطوال 52 عاماً أجري واحد وعشرون استفتاء في مصر منهم 4 استفتاءات في عصر الرئيس جمال عبد الناصر، 10 استفتاءات في عهد الرئيس أنور السادات، و7 استفتاءات في عهد الرئيس مبارك، كانوا كالتالي:
- استفتاء يونيو 1956 حول الدستور واختيار جمال عبد الناصر رئيساً لأول مرة.
- استفتاء فبراير 1958 حول قيام الوحدة بين مصر وسوريا واختيار جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة.
- استفتاء مارس 1965 لاختيار جمال عبد الناصر رئيساً للمرة الثانية.
- استفتاء مايو 1968 علي بيان 30 مارس.
- استفتاء أكتوبر 1970 لاختيار أنور السادات رئيساً بعد وفاة عبد الناصر.
- استفتاء أول سبتمبر 1971 حول اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا وليبيا.
- استفتاء 11 سبتمبر1971 علي الدستور الدائم.
- استفتاء مايو 1974 حول ورقة أكتوبر.
- استفتاء سبتمبر1976 لاختيار أنور السادات رئيساَ لفترة ثانية.
- استفتاء فبراير 1977 حول مجموعة قوانين حماية الوحدة الوطنية.
- استفتاء مايو 1978 حول قانون العيب وقوانين حماية الجبهة الداخلية.
- استفتاء أبريل 1979 حول معاهدة السلام وحل مجلس الشعب.
- استفتاء مايو 1980 حول عدم تحديد مدة الرئيس ومجموعة تعديلات دستورية.
- استفتاء سبتمبر1981 علي اعتقالات سبتمبر وما سمي بمبادئ الوحدة الوطنية.
- استفتاء أكتوبر 1981 لاختيار مبارك رئيساً بعد اغتيال السادات.
- استفتاء فبراير 1987 حول حل مجلس الشعب.
- استفتاء أكتوبر 1987 لاختيار مبارك رئيساً لفترة ثانية.
- استفتاء أكتوبر 1993 لاختيار مبارك رئيساً لفترة ثالثة.
- استفتاء سبتمبر1999 لاختيار مبارك رئيساً لفترة رابعة.
- استفتاء مايو 2005 حول تعديل المادة 76 من الدستور.
- استفتاء مارس 2007 حول تعديل 34 مادة من الدستور.
- استفتاء 19 مارس 2011 حول تعديل 9 مواد من الدستور.
ورغم الطابع المأساوي ليوم الأربعاء الحزين 25 مايو عام 2005 الذي تم فيه الاستفتاء علي تعديل المادة 76 من الدستور والذي قاطعته معظم أحزاب المعارضة والقوي السياسية في مصر، والذي كان نقطة فاصلة في العلاقة بين السلطة ونادي القضاة بعد أن شكل النادي لجنة تقصي حقائق أصدرت تقريراً يدين كافة الإجراءات التي شابت جميع مراحل الاستفتاء، وأكد أن نسبة المصوتين لم تتجاوز 3 ٪ وهو التقرير الذي ترتب عليه تعديل المادة الدستورية التي توجب الإشراف القضائي علي الانتخابات، رغم هذا الطابع المأساوي فالاستفتاءات التي جرت في مصر طوال نصف القرن الماضي حفلت بالعديد من الغرائب والعجائب والمهازل، ليست فقط حكاية الـ5 تسعات الشهيرة، ولا العدد الهزيل الذي يصوت في تلك الاستفتاءات، ولا الموضوعات المتعددة ... بل وربما المتناقضة التي توضع كلها في سلة واحدة لكي يقول فيها الناخب جميعها نعم أو لا، لكن هناك حكايات أخري تستحق أن تروي.
والنبوي إسماعيل وزير داخلية السادات الشهير كان بطلاً لست حلقات من مسلسل الاستفتاء الشهير أحدها في عهد مبارك وهو استفتاء 13 أكتوبر 1981 الذي تولي مبارك الحكم بموجبه عقب اغتيال السادات قبلها بأسبوع، وخمسة استفتاءات في عهد السادات كان أشهرها استفتاء 19 أبريل عام 1979 والذي حل السادات بموجبه مجلس الشعب لاعتراض 19 نائباً رفضوا معاهدة كامب ديفيد، وطرح حل البرلمان والموافقة علي المعاهدة والعزل السياسي لمجموعة من المعارضين وأشياء أخري في هذا الاستفتاء!!.
كان من عادة السادات أن يدلي بصوته في أي استفتاء أو انتخابات في قريته بلجنة مدرسة ميت أبو الكوم الابتدائية (الرئيس المخلوع مبارك كان يدلي دائماً بصوته في مدرسة مصر الجديدة الثانوية بنات المجاورة لمنزله)، وكما تقول جريدة الأهرام ( السبت 21/4/1979) فإنه في يوم الجمعة 20 أبريل 1979 وعقب أداء الرئيس لصلاة الظهر في مسجد القرية، خرج إلي الشارع المجاور للمسجد مرتدياً جلبابه الشهير وممسكا بعصاه وغليونه، وعلي يمينه عثمان أحمد عثمان نقيب المهندسين (صهر السادات حينئذ) وعلي يساره حسني مبارك نائب الرئيس
تكرر هذا المشهد مرة أخري ... وأخيرة (بدون مبارك وعثمان)، يوم الجمعة 11 سبتمبر1981 عقب حملة اعتقالات سبتمبر الشهيرة، عندما أجري السادات استفتاء يوم 10 سبتمبر علي الإجراءات التي اتخذها والتي تنوعت بين اعتقال 1536 ناشطاً سياسياً وفصل العشرات من الصحفيين وأساتذة الجامعات من وظائفهم، ونقل البعض الآخر لوظائف أخري، وعزل البابا، وإغلاق العديد من الصحف، وهي الإجراءات التي أطلق عليها السادات "مبادئ الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي!! وأطلق عليها كتابه وصحفيوه "ثورة سبتمبر".
أما سلوك هذا المواطن الليبي فقد شجع رئيس دولة عربية (كان في الحكم وقتها) هو الرئيس السوداني جعفر نميري لأن يذهب في الاستفتاء التالي مباشرة (الاستفتاء علي اختيار مبارك رئيساً لأول مرة يوم 13 أكتوبر1981) إلي لجنة مدرسة سراي القبة الثانوية ليدلي بصوته ويقول نعم لمبارك، ويكتب كلمة في سجل الزيارات يقول فيها "لقد قمت بواجب وطني مشرف" ويوقع تحتها "جعفر نميري المواطن السوداني المصري"!! (جريدة الأهرام 14أكتوبر1981).
استفتاءات مبارك حفلت بكم أكبر من الطرائف، ففي فبراير 1987 حل الرئيس المخلوع مجلس الشعب تنفيذاً لحكم المحكمة الدستورية التي قضت ببطلان انتخابات 1984 وطرح الأمر علي الاستفتاء، فأرسل أعضاء مجلس الشعب برقية للرئيس يباركون فيها ويؤيدون قرار حل مجلسهم!! (الأهرام 11 فبراير 1987).
وفي الاستفتاء علي رئاسة مبارك لفترة ثانية في أكتوبر عام 1987 كتبت الأهرام (5 أكتوبر 1987) في صفحتها الأولي "عدلي عبد الشهيد وزير الهجرة و22 من أعضاء الاتحاد العام للمصريين بالخارج يمثلون 4 مليون مصري يتوجهون للاستفتاء في لجنة خاصة"!!، وتحت هذا الخبر كتبت الأهرام عنواناً آخر قالت فيه "إقبال لم يسبق له مثيل في تاريخ الانتخابات في مصر".
هذه السابقة التي دشنها وزير الهجرة سرعان ما انتقلت إلي موالسين آخرين، حيث أغرق أحدهم القاهرة بلافتات ضخمة يقول فيها باسم 70 مليون مصري نعم لمبارك، وأعلن آخر أنه يقول نعم لمبارك باسم 95 مليون عامل!! أعضاء في اتحاد عماله.
الهزل طال أيضاً النفقات الباهظة التي تنفق علي تلك الاستفتاءات بلا جدوي، فقد كتبت جريدة الأهرام ضمن تغطيتها لاستفتاءات 1979، 1980، 1981، 1987 أن طائرة أرسلت لواحة أم الصغير جنوب مرسي مطروح (146 نسمة) لنقل اللجنة والصندوق، وكتبت الوفد في أكتوبر 1993 أن الاستفتاء الذي جري لاختيار مبارك رئيساً لفترة ثالثة كلف الخزينة العامة حوالي 500 مليون جنيه رغم عدم وجود منافس للرئيس، وتساءلت الوفد: من يدفع فاتورة الدعاية للاستفتاء؟.
سرعان ما جاء الرد علي الوفد سريعاً حيث دخل رجال الأعمال والتجار بكل قوة في المساهمة في نفقات الاستفتاءات التالية، فكتبت جريدة القدس العربي اللندنية تقريرا حول استفتاء مايو 2005 الخاص بتعديل المادة 76 من الدستور قالت فيه إن صراعاَ محموماً بين عدد من رجال الأعمال من أعضاء الحزب الوطني في إظهار نفوذهم من خلال دعوة المواطنين للذهاب إلي الاستفتاء وارتفعت تسعيرة الأصوات بشكل غير مسبوق، وأضافت الجريدة أن من بين العروض المثيرة للدهشة ما تقدم به رجل أعمال يعمل بتجارة استيراد قطع غيار السيارات بكوبري القبة بتقديم قرص فياجرا ووجبة غداء أو قيمتها المادية لكل مواطن يدلي بصوته في الاستفتاء، وأعلن رجل أعمال آخر في تصريحات لـ "القدس العربي" انه سيقدم ثلاثين جنيهاً لكل من يشارك في الاستفتاء. وقرر أحد مشايخ القبائل في محافظة الإسماعيلية تخصيص سيارات لرحلات ترفيهية وقضاء يوم كامل للعائلات عقب الانتهاء من عملية التصويت في الاستفتاء. وأخيراً فإن كل ما فعله الموالسون في الصحف الحكومية شيء، وما فعلته أعرق الصحف المصرية والعربية شيء آخر،
فقد كتبت الأهرام (27 سبتمبر1999) تحت عنوان "أسرة العربي أول من قالت نعم" أن أسرة "السيد حسين سليمان" الشهير بالعربي وهو الشخص الذي قام - حسب الجريدة - بمحاولة الاعتداء الآثمة علي الرئيس مبارك خلال زيارته لبورسعيد (في 6 سبتمبر) قالت نعم لمبارك، ونشرت صورة لـ"الحاجة" شفيقة أحمد محمود (أم القتيل) وقالت إنها أول من أدلت بصوتها في لجنة مدرسة أشتوم الجميل وأنها قالت بأعلي صوتها وسط زغاريد النساء "قولوا نعم وبرئوا بورسعيد من الولد العاق كما تبرأت أنا منه"، كما أضافت الجريدة أن أمل وأسامة شقيقة وشقيق المعتدي كانا أول من أدليا بصوتيهما!!، والسيد حسين سليمان هذا قتلته أجهزة الأمن أثناء مرور الرئيس المخلوع بالمدينة زاعمة أنه كان ينوي الاعتداء علي الرئيس، وأياً ما كان الأمر وبغض النظر عن صحة التهمة التي وجهت للقتيل، وسواء كانت أسرته قد ذهبت للتصويت أو أرغمت علي الذهاب فما كان يجب تناول الأمر بهذه الطريقة التي تدمي مشاعر أهله وعائلته.