اكتشاف جزيئات حمض نووي ضخمة تعيش في فم الإنسان

تراكيب حمض نووي عملاقة لم تُكتشف من قبل، تم رصدها لأول مرة في عينات مأخوذة من فم الإنسان.
لا يُعرف الكثير عنها بعد، لكنها ليست كائنات حية مستقلة، بل تبدو كأنها بُنى وراثية متنقلة داخل البكتيريا الفموية.
لماذا هذا الاكتشاف مهم؟
ميكروبيوم الفم هو مجتمع معقد من البكتيريا والفطريات والفيروسات، يؤثر على الصحة العامة وليس فقط صحة الفم.
«إنوكليس» يبدو أنها تساعد البكتيريا على التكيف مع التغيرات البيئية السريعة في الفم (مثل تغيّر الحموضة، الطعام، المناعة...).
هذه التراكيب قد تكون مسؤولة عن نقل صفات جديدة للبكتيريا، مثل مقاومة الأدوية أو قدرات التعايش.
علاقة بالمناعة والسرطان؟
بعض التحليلات الجينية تُشير إلى أن الـ«إنوكليس» قد تتفاعل مع آليات المناعة البشرية.
هذا التفاعل قد يساهم في تهدئة أو تنشيط الاستجابة المناعية، ما قد يرتبط بزيادة أو تقليل خطر التهاب مزمن أو حتى تطور سرطانات في الفم أو مناطق أخرى.
وتكشف النتائج المنشورة في مجلة «نيتشر كوميونيكيشنز (Nature Communications)» في 11 أغسطس (آب) 2025 عن أن نحو 3 أرباع سكان العالم قد يحملون «إنوكليس» دون أن يعلموا بذلك.
عالم خفي داخل أفواهنا
يُعدّ جسم الإنسان موطناً لتريليونات من الميكروبات. وفي السنوات الأخيرة حقق العلماء اكتشافاتٍ مذهلة بشأن «الميكروبيوم»؛ وهي مجتمعات البكتيريا والفيروسات والفطريات التي تعيش داخل أجسامنا. وقد حظي ميكروبيوم الأمعاء باهتمامٍ كبير، إلا إن ميكروبيوم الفم يبرز الآن بوصفه مركزاً للأبحاث، مُقدّماً أدلةً على صحة الإنسان وأمراضه.
وعدّ الباحث المشارك في المشروع، يويا كيغوتشي، من قسم الأحياء الكومبيوترية والعلوم الطبية بكلية الدراسات العليا للعلوم الرائدة في جامعة طوكيو، وفريقه أن عليهم البحث عن وجود شيء مشابه في فم الإنسان، مستوحين الأفكار من الاكتشافات الحديثة لعناصر الحمض النووي غير الاعتيادية في بكتيريا التربة. وبدأ الفريق البحث عن عناصر جينية مجهولة لم تُكتشف حتى الآن باستخدام مئات عينات اللعاب التي جمعها مختبر «يوتاكا سوزوكي» بجامعة طوكيو.
ويقول كيغوتشي: «نعلم أن هناك أنواعاً كثيرة من البكتيريا في ميكروبيوم الفم، لكن كثيراً من تفاصيل وظائفها لا يزال غامضاً. وبالتعمق أكثر، اكتشفنا (إنوكليس - Inocles)؛ وهي عبارة عن قطع من الحمض النووي موجودة خارج الكروموسوم البكتيري الرئيسي. وكان الأمر أشبه بالعثور على كتاب يحتوي حواشي إضافية ملصقة به، وقد بدأنا للتو قراءتها لمعرفة ما تفعله».
التقنية التي جعلت الاكتشاف ممكناً
لم يكن العثور على «إنوكليس» مهمة سهلة؛ لأن طرق فحص الحمض النووي التقليدية تُقسّم المادة الوراثية إلى أجزاء صغيرة؛ مما يجعل العثور على عناصر عملاقة مثل «إنوكليس» شبه مستحيل. ولتجاوز هذه العقبة، استخدم الباحثون تقنية حديثة تُعرف باسم «التسلسل طويل القراءة (long-read sequencing technology)»، وهي قادرة على قراءة مقاطع طويلة من الحمض النووي دفعة واحدة.
وجاءت القفزة الحقيقية عندما طوّرت الباحثة ناغيسا هاماموتو، من قسم علم الأحياء الكومبيوتري والعلوم الطبية بجامعة طوكيو، طريقة جديدة اسمها «برينك (preNuc) تعمل على إزالة الحمض النووي البشري من عينات اللعاب؛ مما سمح للعلماء بالتركيز على الحمض النووي للبكتيريا بدقة أكبر. وبفضل هذه التقنية، تمكنوا لأول مرة من إعادة بناء الخريطة الجينية الكاملة للـ«إنوكليس» ليكتشفوا أنها تعيش داخل بكتيريا شائعة في الفم تُسمى «المكورات السبجية اللعابية (Streptococcus salivarius)».
أضخم عنصر جيني خارج الكروموسومات
ويبلغ حجم المادة الوراثية للـ«إنوكليس» نحو 350 ألف «حرف» جيني؛ مما يجعلها من أضخم العناصر الجينية المكتشفة خارج الكروموسومات البشرية. وهذا الحجم الكبير يمنحها القدرة على حمل كثير من الجينات المهمة، مثل الجينات المسؤولة عن إصلاح الحمض النووي التالف، ومقاومة الظروف القاسية، وحماية جدار الخلية البكتيرية؛ مما يساعد البكتيريا على البقاء في بيئة الفم المتغيرة باستمرار.
تداعيات صحية وأبحاث مستقبلية
يفتح هذا الاكتشاف الباب أمام كثير من الأسئلة، مثل: كيف تنتشر البكتيريا المعوية بين البشر؟ وهل يمكن ربطها بأمراض الفم مثل تسوس الأسنان أو التهابات اللثة؟ وهل يمكن أن تُشكل حتى علامات إنذار مبكر على أمراض مثل السرطان؟
وللوصول إلى إجابات، يخطط الفريق لتطوير أساليب لزراعة البكتيريا المحتوية على البكتيريا المعوية في المختبر ودراسة وظائفها من كثب. ومن جهة أخرى، سيستخدم الباحثون التجارب المخبرية والتقنيات الكومبيوترية المتقدمة، مثل «ألفافولد (AlphaFold)» للتنبؤ بأدوار الجينات الموجودة في الـ«إنوكليس». و«ألفافولد» برنامج ذكاء اصطناعي مطور من شركة «ديب مايند» يقدم التوقّعات بشأن بنية البروتينات؛ وهو مصمم للعمل بعملية «التعلّم العميق».
وقال كيغوتشي: «كان اللافت للنظر هو أننا نقدّر أن نحو 74 في المائة من البشر يحملون البكتيريا المعوية. لقد كانت مختبئة عن الأنظار لمجرد أن التقنيات القديمة لم تتمكن من اكتشافها. أما الآن وقد علمنا بوجودها، فيمكننا استكشاف كيفية تأثيرها على صحة الفم والمناعة وربما حتى الأمراض الجهازية».
آفاق جديدة في علم الميكروبيوم
يمثل هذا الاكتشاف خطوة كبيرة إلى الأمام في فهم الميكروبيوم الفموي البشري؛ إذ، وكما ارتبط ميكروبيوم الأمعاء بكل شيء من الهضم إلى الصحة النفسية، قد يتبين أن ميكروبيوم الفم يلعب دوراً أكبر بكثير في الصحة العامة؛ مما كان يُعتقد سابقاً.
ومع ازدياد اهتمام العلماء ببكتيريا الـ«إنوكليس»، فقد يؤدي البحث في هذه العناصر المهمة من الحمض النووي إلى ابتكار أدوات تشخيصية وعلاجات جديدة ليس فقط لأمراض الفم، بل أيضاً لاضطرابات المناعة والسرطانات.
وكما يقول الباحث كيغوتشي: «الآن، بعد أن عرفنا بوجودها، يمكننا بدء دراسة كيف تؤثر هذه العناصر في صحتنا، وربما نكتشف طرقاً جديدة للوقاية أو العلاج في المستقبل».