بيت المقدس.. كيف استطاع صلاح الدين إعادة المدينة إلى كنف أمة الإسلام؟
تجلى القائد صلاح الدين الأيوبي رمزًا؛ لعودة بيت المقدس إلى كنف أمة الإسلام، في شهر رجب من عام ٥٨٣ هـ، مُثبتًا أن القوة الحقيقية تكمُن في الرحمة والعدل عند بلوغ تمام المقدرة.
فتح بيت المقدس بعد عقود من الاحتلال
وفي شهر رجب من عام ٥٨٣ هـ شاءت العناية الإلهية أن يتجلى القائد الخالد صلاح الدين الأيوبي رمزًا؛ لعودة المدينة المقدسة إلى كنف أمة الإسلام، مُزيلًا احتلالًا دام نحو تسعين عامًا، لم يكن هذا الفتح مجرد استرداد للأرض، بل كان انتصارًا أخلاقيًّا ساحقًا، سُطِّر بحمد الله – تعالى-، مُثبتًا أن القوة الحقيقية في ديننا تكمُن في الرحمة والعدل حتى عند بلوغ تمام المقدرة.
وحدة الصف وبناء الأساس العقدي
ويوثق لنا الإمام عماد الدين الأصفهاني في مصنَّفه الجليل: (الفتح القسي في الفتح القدسي)، كيف أن هذا الفتح لم يكن وليد صدفة أو نزوة، بل كان ثمرة جهد عقدي، وسياسي متأصِّل، لقد انبرى صلاح الدين مستجيبًا؛ لصرخات استغاثة كانت تشكو من وطأة الاحتلال، والمنع من الصلاة في المسجد الأقصى المبارك.
لقد قام صلاح الدين ببناء مشروع استراتيجي عقدي روحي لا يتجزأ:
- عقيدة صلاح الدين الأيوبي: لقد كان لتوحيد العقيدة الأثر البالغ في مسيرة صلاح الدين، فقد نشأ- رحمه الله- على عقيدة أهل السنة والجماعة، وكان مذهبه الفقهي هو المذهب الشافعي مع اهتمامه بالحديث الشريف حيث كان يجل علماء الحديث، ويحضر دروسهم، أما عقيدته: فكانت على مذهب إمام أهل السنة الإمام أبي الحسن الأشعري- رضي الله عنه-، وقد حرص صلاح الدين على نشر هذه العقيدة السُّنية في البلاد التي حكمها خاصة في مصر بعد إزالة الدولة الفاطمية، فيقول جلال الدين السيوطي: "فلما ولي صلاح الدين بن أيوب أمر المؤذنين في وقت التسبيح أن يعلنوا بذكر العقيدة الأشعرية، فـوظف المؤذنين على ذكرها كل ليلة إلى وقتنا هذا". [الوسائل في مسامرة الأوائل، (ص١٥)].
- توحيد الجبهة: عمل بعزيمة لا تلين على جمع مصر وبلاد الشام تحت راية واحدة، مُدرِكًا حقًا أن التحرير لن يتم بصفوف متفرِّقة أو جهود مبتورة.
- الإعداد والتخطيط: جعل تحرير المقدسات هدفًا أولًا، وأعد له إعدادًا عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا مُحكمًا حتى توافقت الإمكانيات مع عظمة الطموحات.
"حِطِّين" مفتاح الفتوح
وتعد معركة حطين (ربيع ٥٨٣ هـ) هي الحدث المفصلي، وهي العتبة الذهبية التي كشفت الطريق إلى القدس، لقد أظهر صلاح الدين فيها حنكة عسكرية فذَّة؛ إذ استدرج الجيوش المتحالفة إلى أرض اختارها بذكاء واضح، واحتكر موارد الماء عليهم، فحطَّم قوتهم في يوم واحد.
كان هذا الانتصار إزالة للعائق الأكبر أمام تحرير القدس، فأسقط القلاع، والمدن الساحلية تباعًا، مُمهدًا الطريق إلى يوم الفتح العظيم.
فتح بيت المقدس وسماحة الإسلام
وعندما وصل صلاح الدين إلى أسوار القدس، وحاصرها أيامًا، ثم منَّ الله عليه بالفتح، فدخلها في ٢٧ رجب ٥٨٣ هـ، وكان دخوله دخول الفاتح الذي يتجسد فيه الخلق النبوي الكريم، لا المنتقم الذي يسفك، وعلى النقيض مما فُعِل في حق المسلمين عند دخول الاحتلال الأول، فقد جسَّد صلاح الدين أخلاق الإسلام في أبهى صورها:
- الأمان، والعفو العام: منح الأمان العام لجميع سكان المدينة من أهل الذمة، وتعهد بحماية كنائسهم ومقدساتهم.
- الفداء والرحمة: فرض فدية يسيرة على القادرين، لكنه تجاوز الأمر ليُطلق سراح آلاف الفقراء، والعجزة والمُنهَكين بلا مقابل، بل دفع عنهم من ماله الخاص في موقف إنساني تاريخي عظيم.
- تطهير الأقصى: كان أول عمل قام به هو تطهير المسجد الأقصى وقبة الصخرة من مظاهر التدنيس، وإعادة منبر نور الدين زنكي؛ ليُرفع فيه الأذان، وتُقام الجمعة بعد صمت دام تسعين عامًا كاملًا.
- كرم الفاتحين: عامل قادة الفرنجة بكرم الفاتحين، وسمح لهم بالمغادرة بسلامٍ تام، مخالفًا بذلك كل توقعاتهم بالانتقام.
- النصر الأخلاقي: القوة الحقيقية في ضبط النفس والرحمة عند المقدرة، فالانتصار العسكري بلا قيمة تُذكر إن لم يقترن بانتصار أخلاقي.