حول «الست»:
«الدوزان» خير من «البوبيون»
أم كلثوم بنت نكتة ولم تكن كئيبة
ساعة من الإجلال والاستنكار قضيتها مشاهداً لفيلم «الست» الذى يحكى مسيرتها فى دقائق لا يسعها فيلم، فرض عليه الإيجاز بطبيعة الزمن الذى لا بد لوقت عرض الفيلم ألا يتجاوزه، بدأ الفيلم مبهراً من الختام حيث كانت أم كلثوم تغنى «إنت عمرى» بفرنسا، ثم بدأ الفيلم من حيث بداية الطفولة الشاقة لأم كلثوم ومعها شقيقتها «سيدة» التى لم يذكرها مسلسل أم كلثوم من بطولة صابرين وإخراج محمد علي، ثم بدأ غناء أم كلثوم بصوت المطربة «نسمة محجوب» التى كان صوتها لا يليق بأى قدر بقدرات أم كلثوم فى طفولتها، على عكس ما كان فى مسلسل «أم كلثوم» حيث كانت المطربة «آمال ماهر» و«ريهام عبدالحكيم» أكثر اقتداراً وإقناعاً وتدريباً لتعبرا بأكثر قدر من الاقتدار والحرفية عن صوت أم كلثوم فى هذه الفترة الأولى، بينما جاء صوت نسمة محجوب غير ملائم بالمرة، لم يقنعنى كمشاهد ومستمع، وأضر بهذا الصوت الجديد الذى بإمكانه أن يتفوق فى مواقع أخرى غير المواقع التاريخية الشاهقة لطفولة أم كلثوم المعجزة.
ورغم الأداء العبقرى لاشك للممثلة «منى زكى» بهذا الشكل، إلا أنها أهلت علينا ما فرض عليها، لم يذكر تصرفات غاية فى الدقة والأهمية لأم كلثوم كان على صناع الفيلم أن يعلموها، وهى أنها حين كانت تقف أمام فرقتها الموسيقية قبل رفع الستار، كانت تتولى ضبط الآلات الموسيقية بنفسها وكان «الدوزان» الذى يضبط عليه الموسيقيون أوتارهم وآلاتهم هو صوت أم كلثوم نفسه، فكانت تقول مثلاً بصوتها حرف ودرجة الصول فكل الآلات الموسيقية تضبط درجتها الصوتية على درجة وسلامة صوت أم كلثوم، وهكذا فى حرف «الدو» و«الرى» وباقى المدرج الموسيقى وكافة درجات السلم فى حالة انضباط وسلامة صوتية لا يكاد يتمتع بها أعظم الأصوات الغنائية فى تاريخ الغناء العربى، وبينما تجاهل أو جهل صناع الفيلم هذا، انشغلوا بأمر تافه مثل عازف نسى لبس «البوبيون»، وصور الفيلم «سيدة الغناء العربى» كامرأة حزينة كئيبة، وهى كانت غير ذلك، إذ كانت خفيفة الظل و«بنت نكتة» مرة قال لها أحد العازفين فلان العازف يريد أن يبيع لى «كرڤتة» بجنيه، فقالت لهما أين هى، قالوا لها هذه هى، فقالت هذه «الكرڤتة» عليها زيت بجنيهين، فكيف يبيعها بجنيه واحد.
ومرة رأت في يد الشاعر «عبدالوهاب محمد» مفاتيح سيارة، وهو فى زيارتها ليسمعها أغنية جديدة لها، فقالت له هل معك سيارة، فقال لها.. لا قالت له.. إذن هذه مفاتيح «التاكس» وغير ذلك من الإفيهات والقفشات الحية التى كانت تغنينا عن ظهورها رحمها الله وهى تدخن السجائر، حتى وإن كان ذلك حقاً، فلم تكن لتمارس التدخين كمدخنة، فلو كان ذلك كذلك لأثر على صوتها وقوة نفسها، مواقف كثيرة لسيدة الغناء العربى أم كلثوم كانت جديرة بالحكى والمشاهدة، خير من كثير من المواقف التى لا طائل من مشاهدتها لإثراء العمل، إلا أنه والحق يقال، ذكر الفيلم قولاً لأم كلثوم حين منع رجال ثورة يوليو غناءها، بعد اندلاع ثورة 23 يوليو رداً على قول لجمال عبدالناصر يقول لها فيه نريد أن نسمعك الخميس الأول من كل شهر كما عهدنا، فقالت له لا أريد أن اضطر إلى القعود فى البيت مرة أخري، إشارة منها لما قامت به ثورة يوليو لحظة اندلاعها من وقف بث الأغنيات بالإذاعة لها، كعقوبة على أم كلثوم إذ غنت للملك فاروق، وهو من العصر البائد، لكن سرعان ما استغلت الثورة صوت أم كلثوم لصالحها فأدركت أم كلثوم ذلك، لكنها غنت مع ذلك للوطن، وتبرعت من أجله بمليارات الجنيهات لصالح المجهود الحربى وقتها. وأشار الفيلم كذلك فى لافتة إلى أن من كان منعها أو تسبب فى منعها، أو على الأقل بارك هذا المنع «سيد قطب» وقال فى مقال كتبه بإحدى الجرائد أوقفوا هذه الأصوات من العهد البائد، وكانت أم كلثوم متضايقة منه إذ ذهب بأفكاره إلى طريق التشدد الذى سمته أم كلثوم «استشياخ» بعد أن كان سيد قطب يكتب القصائد فى مدح محمد عبدالوهاب.
الحقيقة أن أم كلثوم فى حاجة إلى سلسلة أفلام، ومسلسلات لتحذو الجماهير كما يحذو أهل الفن طريقها فى النهوض بالأغنية، وتقديم جمال مماثل أو مقترب للجمال الذى قدمته أم كلثوم والذى لا يبهت كلما مر الزمن، بل يلمع أكثر.