خطبة الجمعة
(وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله وصحبِه، ومن سارَ على نهجِه واقتفى أثرَه إلى يومِ الدين. أما بعد…
يا عبادَ الله، إنَّ من أخطرِ ما يبتلى اللهُ به القلوبَ أن يختلَّ ميزانُها، فتطمئنَّ إلى ما ليس بحقٍّ، وتأنسَ بما لا يُرضى اللهَ، فيرى العبدُ نفسَهُ مُحسنًا، وهو فى الحقيقةِ محتاجٌ إلى مراجعةٍ وبصيرة. ومن هنا جاء التحذيرُ القرآنيُّ العميقُ الذى لا يُوجَّهُ إلى الكسالى ولا إلى المعرضين، بل إلى قومٍ عملوا وبذلوا وسَعَوا، ثم ضلَّ سعيُهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا؛ آيةٌ تكشفُ محنةَ البصيرةِ قبل أن تفضحَ خللَ السلوك، وتدعو المؤمنَ إلى أن يقفَ مع نفسِه وقفةَ صدقٍ، يسألُ فيها عن ميزانِه قبل أن يسألَ عن عملِه، وعن طريقِه قبل أن يُكثِرَ من خُطاه.
يا عبادَ اللهِ، إنَّ القرآنَ حينَ يُحذِّرُ لا يقفُ دائمًا عندَ المعصيةِ الظاهرةِ، ولا يقتصرُ على الذنبِ الذى تنكرهُ الفِطرُ السليمةُ، بل يكشفُ أحيانًا عن خطرٍ أدق، ومحنةٍ أخفى، وفتنةٍ لا ينجو منها إلّا من رزقهُ اللهُ بصيرةً نافذةً وميزانًا مستقيمًا، فتنةِ العملِ الذى يُؤدَّى فى صورةِ الخيرِ، ويتحرّكُ بدافعِ النيّةِ، ويُرفَعُ باسمِ الطاعةِ، ثمّ يكونُ مع ذلك سببًا فى الضلالِ والخسرانِ.
ومن هنا جاء التحذيرُ القرآنيُّ البالغُ فى قولِه سبحانه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، {الكهف: 103، 104}، ضلَّ سعيُهم لأنهم عملوا لغيرِ اللهِ، وما كان لغيرِ اللهِ فلا ينفعُ، ويُقالُ: الذين ضلَّ سعيُهم هم الذين قرنوا أعمالَهم بالرياءِ، ووصفوا أحوالَهم بالإعجابِ، وأبطلوا إحسانَهم بالملاحظاتِ أو بالمنِّ، القشيريُّ فى لطائف الإشارات {ج2، ص415}.
ثمّ تأمّلوا يا عبادَ اللهِ دقّةَ التعبيرِ القرآنيِّ حين قال: ضَلَّ سَعْيُهُمْ، ولم يقل: ضلّوا، لأنَّ الضلالَ هنا تعلّقَ بالسعى لا بالذاتِ، وبالعمل لا بالنيّةِ، وهو ما أشار إليه الإمام. أبو جعفرٍ الطبريُّ رحمهُ اللهُ حين قال: «هم الذين لم يكن عملُهم فى حياتهم الدنيا على هدى واستقامةٍ، بل كان على جورٍ وضلالةٍ،… وهم يظنّون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون»، تفسير الطبرى {ج18، ص128}.
بهذا الميزانِ يا عبادَ اللهِ نفهمُ أن أخطرَ ما يُصيبُ الساعى إلى اللهِ أن يضلَّ سعيُهُ لا قصدُهُ، وأن يُردَّ عملُهُ لا نيّتُهُ، وأن يعيشَ فى طمأنينةِ الإحسانِ الموهومِ، وهو أحوجُ ما يكونُ إلى مراجعةٍ ومحاسبةٍ، ولذلك لم تكن هذه الآياتُ آياتِ وعظٍ عابرٍ، بل آيات تأسيس لمنهجٍ كاملٍ فى وزنِ الأعمالِ وتصحيحِ المساراتِ وحراسةِ القلوبِ من الغرورِ، حتى يلقى العبدُ ربَّهُ بقلبٍ سليمٍ، وعملٍ موزونٍ، وسعيٍ لم يضلَّ.