رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى

أطفال بلا أوراق رسمية

بوابة الوفد الإلكترونية

أمهاتهم تزوجن بالإشهار فقط بسبب السن

«ميادة» أنجبت طفلاً بعد وفاة زوجها فأصبح شقيقها.. وزوج يبتز أسرة زوجته لإثبات نسب الأطفال

إجراءات معقدة تواجهها الأسر بعد المصادقة على الزواج

زواج القاصرات.. طفولة مسروقة تحت ستار العادات والفقر

فى قرى ونجوع مصر، حيث تختلط العادات بالتقاليد، ويُختزل «الستر» فى سن الزواج لا فى سن النضج، تُنتزع الطفولة من آلاف الفتيات كل عام تحت مسمى الزواج المبكر، فتيات لم يكتمل وعيهن، ولم يسمح لهن بحق الاختيار أو الاستعداد، ينتقلن من مقاعد الدراسة إلى بيوت الزوجية وهن ما زلن يحملن حقائب المدرسة، ليبدأن حياة تُفرض عليهن مليئة بأعباء نفسية وجسدية واجتماعية، كثيرًا ما تنتهى بالفشل أو المأساة.

ورغم أن القانون المصرى حسم الأمر وحدد سن الزواج بـ18 عامًا، فإن زواج القاصرات لا يزال واقعًا متجذرًا، يجرى التحايل عليه بعقود عرفية أو بما يُعرف بزواج الإشهار، على أن يُؤجل التوثيق إلى ما بعد بلوغ السن القانونية، وفى هذه المساحة الرمادية بين النص القانونى والواقع الاجتماعى، تدخل الفتاة علاقة زوجية كاملة بلا حماية، بلا حقوق واضحة، وبلا ضمانات إذا انهارت العلاقة أو تعرضت للإنكار.

ولا تتوقف المأساة عند الفتاة وحدها، بل تمتد إلى أطفال يولدون من هذه الزيجات غير الموثقة، ليصبحوا ضحايا صامتين لجرائم لم يرتكبوها، أطفال بلا أوراق رسمية، وبلا نسب يُثبت تلقائيًا، وبلا حقوق فى النفقة أو الميراث، فإذا توفى الأب، أو أنكر العلاقة، تُجبر الأم القاصر على خوض معركة قضائية شاقة لإثبات النسب عبر المحاكم وتحاليل الـDNA، بينما يظل الطفل معلقًا خارج مظلة القانون، بلا اسم أو هوية، فى واحدة من أقسى صور العقاب الاجتماعى.

وحتى فى حالة استمرار الزواج والتصادق عليه بعد بلوغ الفتاة سن الثامنة عشرة تبدأ معركة من نوع آخر لاستخراج شهادة ميلاد للطفل الناتج عن هذا الزواج، حيث يدور الزوجان فى أروقة المصالح الحكومية لإثبات نظر طفلهما.

وتكشف التقارير عن استمرار الظاهرة بأرقام مقلقة، خاصة فى المناطق الريفية والأكثر فقرًا، مدفوعة بعوامل متشابكة فى مقدمتها الفقر والجهل، والخوف من العنوسة وسوء الفهم الدينى، وضعف الرقابة المجتمعية والقانونية، ثقافة الصمت والتواطؤ تُكمل المشهد، حيث تُغلق الوقائع عرفيًا، وتُدفن الجرائم باسم «الستر» بينما تبقى الضحايا وحدهن فى مواجهة العواقب.

الخطر لا يقتصر على انتهاك حق الطفلة فى التعليم والاختيار، بل يمتد إلى تهديد مباشر لصحتها وحياتها؛ فالقاصرات أكثر عرضة لمضاعفات الحمل والولادة، والنزيف، والإجهاض، ووفيات الأمهات والأطفال، فضلًا عن الصدمات النفسية والعنف الأسرى وارتفاع معدلات الطلاق المبكر، ومع كل حالة زواج قاصر، تتشكل دائرة جديدة من الألم، قد تبدأ بفتاة وتنتهى بطفل بلا حماية.

هذا التحقيق يفتح ملف زواج الإشهار من زاوية أوسع، لا تكتفى برصد الفعل، بل تتتبع آثاره الممتدة على الفتيات وأطفالهن ضحايا هذا الزواج، وتناقش مسؤولية الأسرة والمجتمع والدولة، مستندًا إلى شهادات حية وآراء خبراء قانونيين واجتماعيين، فى محاولة للإجابة عن سؤال مؤلم لماذا ما زالت الطفولة تُزوج، ولماذا يولد أطفال يدفعون ثمن هذا الزواج قبل أن يتعلموا حتى معنى الحياة؟

ففى إحدى قرى الجيزة تزوجت فتاه فى سن 16 عامًا من أحد أقاربها، على وعد بتوثيق الزواج عند بلوغها 18 عامًا، وحملت بطفل فور زواجها وبعد أسبوع واحد من ولادتها، توفى الزوج فى حادث، فرفضت أسرته تسجيل الطفل أو الاعتراف بالزواج، وطُلب من الفتاة إثبات أنها كانت زوجة لهذا الشاب.

وفى حالات أخرى قد يتكرر هذا الأمر مما يضع الأسرة فى مأزق أخلاقى وقانونى، يدفع بعضهم إلى تسجيل الطفل باسم جدّه لأمه، ليصبح الابن رسميًا «أخًا» لأمه فى واحدة من أبشع صور تشويه الأنساب، وهو ما حدث مع «ميار» التى تزوّجت فى عمر الثالثة عشرة بإحدى قرى مركز الحسينية بمحافظة الشرقية. وبعد عامٍ واحد فقط، توفى زوجها وكانت تحمل فى أحشائها طفلا منه، وبعد الوضع لم تستطع تسجيل الطفل باسم والده لأن عقد الزواج لم يوثّق. وعُقدت جلسة ودية بين عائلتها وعائلة الزوج، انتهت بحكم عرفى يقضى بتسجيل الطفل باسم جدّه والد أبيه. لكن أعمامه رفضوا خوفًا من أن يُشاركهم المولود فى الميراث، ليسُجّل الطفل باسم والد أمه، ليصبح أمام القانون أخًا لأمه.

جريمة

وفى هذا الصدد أكدت الدكتورة إلهام المهدى، المحامية، أن الدستور المصرى حسم الجدل نظريًا حول زواج القاصرات منذ البداية، إذ عرّفت المادة 80 الطفل بأنه كل من لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، وهو تعريف يُفترض أن يترتب عليه حظر أى ممارسة تمس سلامته الجسدية أو النفسية، وعلى رأسها الزواج المبكر، وكرّس المشرّع هذا التوجه فى قانون الأحوال المدنية، حين حظر توثيق زواج من هم دون 18 عامًا ووقّع جزاءات على المخالفين.

وترى «المهدى» أن المشكلة لم تكن فى غياب النصوص، بل فى قصورها، إذ اكتفت لسنوات طويلة بمنع التوثيق دون تجريم الفعل نفسه، ما فتح الباب واسعًا أمام التحايل بزواج الإشهار أو الزواج العرفى، وتأجيل التوثيق إلى ما بعد بلوغ الفتاة السن القانونية، هكذا نشأ واقع موازٍ للقانون، يُرتكب فيه الزواج فعليًا بينما تظل الدولة غائبة حتى تقع الكارثة.

وتوضح الخبيرة القانونية أن أخطر نتائج هذا الواقع تقع على الأطفال، الذين يُولدون من زيجات غير موثقة، فيجدون أنفسهم بلا حماية قانونية، فإذا توفى الزوج قبل توثيق العقد، يصبح تسجيل الطفل معركة قضائية معقدة، إذ تُجبر الأم على رفع دعوى إثبات نسب وإجراء تحليل DNA، قبل أن يتمكن الطفل من حمل اسم أبيه أو الحصول على أى حق قانونى، وبعد تسجيل الطفل، تبدأ مساءلة الأسرة عن تزويج القاصر، وفى بعض الحالات، يرفض أهل الزوج الاعتراف بالطفل، تهربًا من منحه حقه فى الميراث.

ولا تتوقف المأساة عند هذا الحد، فهناك حالات يرفض فيها الزوج توثيق العقد بعد بلوغه السن القانونية، ويبتز أسرة الفتاة بمبالغ طائلة مقابل التسجيل، ما يؤدى إلى نزاعات قد تصل إلى القتل، بينما تعجز الأسرة عن الإبلاغ خوفًا من انكشاف الجريمة الأصلية، وهو ما حدث بالفعل فى قرية بالجيزة حيث ابتز الزوج أهل الفتاة وطلب منهم نصف مليون جنيه للتسجيل ورفضوا مما أدى إلى حدوث مشاجرات وصلت للقتل والثأر بين العائلتين.

وتخلص الخبيرة القانونية إلى أن الأطفال هم الضحايا الحقيقيون لزواج الإشهار، إذ يدفعون ثمن جريمة لم يرتكبوها، مؤكدة أن مواجهة الظاهرة لا تقتصر على التشريع والعقاب، بل تتطلب تشديدًا حقيقيًا على تعليم الفتيات، وبرامج توعية مجتمعية جادة، وندوات دينية تقودها مؤسسات كالأزهر، لحماية الطفولة قبل أن تتحول المأساة إلى واقع دائم داخل محاكم الأسرة.

أخطر أشكال العنف

قالت الدكتورة جيهان عبد الله، استشارى الصحة النفسية والعلاقات الأسرية، إن زواج القاصرات يُعد أحد أخطر أشكال العنف غير المعلن ضد الفتيات، لأنه يتم فى مرحلة عمرية لا تمتلك فيها الطفلة أى قدرة على التمييز أو النضج النفسى، فنحن نتعامل مع طفلة يتم عزلها فجأة عن حياتها الطبيعية، تُنتزع من عالمها وتُلقى فى أدوار أكبر من عمرها، ما يؤدى إلى فقدان الثقة بالنفس والشعور بالعجز وعدم الأمان.

وأوضحت أن الزواج المبكر يفرض على الفتاة مسؤوليات لا تتناسب مع خبرتها أو وعيها، فتدخل حياة زوجية غير ناضجة نفسيًا، بلا توافق أو استعداد حقيقى لتكوين أسرة، ومع أول فشل زوجى، تجد الفتاة نفسها فى مواجهة مجتمع يحمّل المرأة وحدها مسؤولية الانهيار، بينما لا يمنحها أى فرصة حقيقية للإنقاذ أو التعافى، مضيفة المرأة البالغة قد تكافح وتحاول، لكن القاصر تفقد مراحل عمرها الطبيعية، وتدخل صراعًا نفسيًا مركبًا لا تحتمله.

وأكدت أن زواج القاصرات يتقاطع بشكل خطير مع اضطرابات المراهقة، ومخاطر الحمل والولادة المبكرة، ما يضاعف الأضرار النفسية والجسدية، وينتج عنه أسر هشة، مشيرة إلى أن الأسرة هى الوحدة الأساسية للمجتمع، فإذا كانت الأسرة غير مستقرة نفسيًا، فإن المجتمع بأكمله يصبح هشًا، ويُنتج أطفالًا يعانون من اضطرابات نفسية وسلوكية، وتساءلت كيف لطفلة لم تكتمل نفسيًا أن تربى أطفالًا أسوياء.

وانتقدت «عبد الله» الثقافة المجتمعية السائدة فى الريف والمدن، التى تربط اكتمال الأنوثة بالزواج المبكر، وتحوّل سن الفتاة إلى معيار اجتماعى ضاغط، حيث تنظر الفتيات لبعضهن البعض وكأن الزواج الصغير شهادة قبول اجتماعى.

وأشارت إلى أن التعليم، رغم أهميته، لم يعد قادرًا وحده على مواجهة هذه الثقافة، فى ظل تراجع الدور التربوى للمدارس، وتحولها إلى منظومة امتحانات ودروس وتقييمات، مع تهميش القيم الأخلاقية والتربوية داخل المناهج.

وشددت على أن مواجهة زواج القاصرات لا يمكن أن تتم بشكل فردى، لأن المجتمع يؤثر فى الأفراد بقوة تفوق تأثير الأسرة وحدها وقالت إن أى مشكلة اجتماعية تحتاج إلى تضافر جهود جميع المؤسسات الأسرة، المدرسة، الإعلام، الخطاب الدينى، والمجتمع المدنى.

وأضافت: نرى تعاطفًا وقتيًا مع الضحايا عند وقوع الجرائم مثل ماحدث فى جريمة قتل كريمة، ثم تعود الممارسات نفسها وكأن شيئًا لم يحدث.

وأضافت أن الأطفال ضحايا هذا الزواج يتعرضون لصدمات نفسية مبكرة نتيجة الضغط المفاجئ وتحميلهم مسؤوليات تفوق أعمارهم، ما يؤدى إلى اضطرابات فى الشخصية قد تصل إلى الاكتئاب والقلق المزمن وفى ظل هشاشة التربية، حيث «أطفال يربّون أطفالًا» فتظهر عليهم مظاهر ضعف الشخصية، والتأخر الدراسى، وصعوبة تكوين علاقات اجتماعية سليمة، مع شعور دائم بالخوف من المستقبل والعجز عن التربية السوية.

واختتمت بالتأكيد أن تغيير الموروثات السلبية يحتاج إلى وعى جماعى طويل المدى، لأن المجتمع الذى يضغط على الفتاة لتتحمل العنف خوفًا من لقب مطلقة، هو نفسه المجتمع الذى قد يدفعها إلى الانهيار النفسى أو الانتحار، مؤكدة أن حماية الفتيات تبدأ بتغيير الفكر، لا بالاكتفاء بالشعارات والمناسبات.

حرام شرعا

من جانبة أكد الشيخ على المطيعى، أحد علماء الأزهر الشريف، أنه يعيش المشاكل التى تحدث بسبب زواج القاصرات، وأنه فى العصر الحالى يعد حرام شرعًا لأنه يؤدى إلى ضرر والقاعدة تقول إن الضرر يزال وأنه لا ضرر ولا ضرار وإذا تحقق الضرر تحققت الحُرمة، ولذلك فإن هذا الزواج رغم توافر أركانه من إشهار وقبول ووجود ولى للزوجة يجب أن يحرم لأن أضراره أكثر من منافعه.