الناصية
للطبيب النفسى الراحل يحيى الرخاوى قول علمى مهم وهو عندما يقف الإنسان أمام مرآة الدولاب ويتكلم مع نفسه فهذا طبيعى جدًا.. أما إذا قال إن الدولاب يكلمه ويرد عليه لا بد من أن يرتدى ملابسه ويحضر إلى العيادة فورا.. ومعظمنا يحفظ الكثير من الشخصيات التاريخية والسياسية وحتى الفنية داخل دواليب حياتنا ونتكلم معها وهذا عادى حسب رأى الدكتور الرخاوى، أما تصورنا أنها ما زالت حية وتكلمنا وترد علينا.. فهذه مشكلة!
وإذا افترضنا أن فيلم «الست» يشوه شخصية أم كلثوم.. فهل فيلم واحد قادر على محو تاريخ هذه العبقرية المصرية؟.. وهل فيلم وحيد عن شخص، ربما، ملحد قادر على تشويه الإسلام؟.. لماذا لا نقبل وجهات النظر المختلفة فى الموضوع الواحد وعن الشخصية الواحدة؟
أقر الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط مبدأ الشك فى كل شىء وأى شىء بهدف معرفة الحقيقة أو على الأقل الاقتراب منها.. المهم لا تقبل الأشياء كما هى وكما تراها ولا بد من البحث والدراسة للوصول إلى المعرفة، بمعنى أن نفهم ولا نحفظ!
ولست هنا للدفاع عن فيلم «الست» بطولة منى زكى وتأليف أحمد مراد وإخراج مروان حامد، والذى يتناول جانبًا من حياة السيدة «أم كلثوم» وكذلك لست هنا للدفاع عن فيلم «الملحد» بطولة أحمد حاتم ومحمود حميدة، تأليف إبراهيم عيسى وإخراج محمد العدل.. ولكن من حيث المبدأ كل مبدع من حقه أن يقدم رؤيته الفنية فى إطار من الآداب العامة ومن حق المتلقى أو المشاهد قبول أو رفض هذه الرؤية أو هذا العمل الفنى، وهى طريقة أفضل وأنجح بكثير من المنع!
ومع أن الدين الإسلامى، وكل الأديان السماوية كذلك حرمت عبادة الأصنام، ولكن ما زلنا نعبد الأصنام فى شكل وهيئة شخصيات تاريخية، أو سياسية أو فنية.. ونرى كل الشخصيات والرموز فى تاريخنا على أنها شخصيات معصومة من الخطأ، وفى الواقع هم بشر يخطئون مثلنا مثلهم وربما البعض منهم أسوأ من كل البشر!
وفى التاريخ الإسلامى هناك شخصيات نتعامل معها وكأنها مقدسة ونقتل بعضنا البعض من أجلها إذا فئة قالت ما لا يرضى الفئة الأخرى عن هذا الإمام أو ذلك الخليفة، فنحن نحافظ على رموزنا أو شخصياتنا التاريخية والسياسية والدينية وحتى الفنية بدمائنا مع أنهم فى النهاية رجال ونساء يمكن أن يكونوا على صواب فى موقف وعلى خطأ فى موقف آخر!
والإصرار على التوقف عند رؤية واحدة للشخصيات والأحداث والوقائع مشكلة كبيرة نهايتها الجمود فى نفس المكان وعند نفس الفكرة، ولا نرى إلا ما نريد رؤيته ولذلك نكره النور الذى يوضح الأشياء ويستهوينا الظلام لأنه يغطى على كل عيوبنا، وهى حالة تجعل حركة المجتمع كله يرجع إلى الخلف وعندما يتحرك يتحرك إلى الوراء!
إن فيلمى الست، والملحد، لا يقدمان شخصيات يجب أن نحبها أو نكرهها، ولكنهما يقدمان أسلوبًا فى الفكر وطرائق فى التفكير أو الحث على استعمال عضلة الفكر والتفكير والتشجيع على مناقشة كل شىء بهدوء حتى ولو الموضوع يؤدى إلى شكوك هنا أو هناك، ففى النهاية ستبقى الشخصيات فى التاريخ وستظل الأديان فى أماكنها وموقعها ولكن الاختلاف سيكون فى زوايا الرؤية التى يمكن من خلالها رؤية جوانب أخرى أعمق وأجمل!
ولا شك أن فيلمًا واحدًا عن أم كلثوم لن يمحو تاريخها ولا عظمة صوتها وعبقريتها، ومن المؤكد أن فيلمًا وحيدًا يناقش بشجاعة وجرأة أسئلة عن الدين الإسلامى تدور فى أذهان شبابنا لا يعنى أبدًا أنه سيهدم الدين وينال من عظمته وقدسيته.. أما إذا تعاملنا مع كل شىء فى حياتنا كتحفة داخل «شوفنيرة» نتحاور معها ونكلمها وتكلمنا فعلينا الذهاب إلى العيادة فورًا!