خارج السطر
فى سنة 1945 صدرت رواية «القاهرة الجديدة» للمبدع العظيم نجيب محفوظ، ساردة ما جرى للناس فى مصر عقب الأزمة المالية العالمية فى الثلاثينات، وما فعلته فى المصريين. كشف أديب نوبل كيف تغيرت أخلاق البشر، وتدنت سلوكياتهم، وتخلوا عن قيم الرُقى والتلاحم والتكافل.
ازدرى نجيب محفوظ بضميره الوطنى الابداعى ذلك الجمال الشكلى للشوارع والأزياء والمظاهر فى مصر، الخاوى من أى مضمون قيمى، والمُناقض لمبادئ المروءة والوفاء والتسامح. أزعجته سمات المادية الغالبة، استقبح روح النتهازية السارية، استهجن النفاق، الكذب، الغش، الخداع، والوصولية فى أعتى صورها فكتب نصه الخالد.
فيما بعد تحولت الرواية إلى فيلم حمل عنوان «القاهرة 30»من إخراج صلاح أبو سيف وبطولة سعاد حسنى وأحمد مظهر وحمدى أحمد.
فى الرواية الكاشفة يصعد البطل محجوب عبدالدايم مجتمعياً على نفايات القيم، ومخلفات المبادئ، فيقبل بكل وضاعة وانحطاط مشاركة مديره فى العمل له فى زوجته إحسان، مقابل منحه المال والمناصب. يتمادى بطل النص فى غيه مُقرراً أن سمة العصر هى الوصول إلى الثراء والتحقق مهما كانت الوسائل والأدوات، ولا يتحرج من نظرة ناس وإدانات أهل.
مرت سنون وسنون، تعاقبت أزمنة، تبدلت أنظمة، تغيرت البلاد ومَن عليها. اجتاحت مصر ثورات، محيت ثروات، وكومت ثروات أخرى، صعد بشر، وهبط آخرون، غير الوكلاء أثوابهم، بدلوا ميكرفوناتهم، أطلقوا فى بعض الأوقات اللُحى، قصروا الثياب، وحملوا المسابح، تلونوا، تغيروا، مرات ومرات لكن ظل نموذج محجوب عبدالدايم، حاضراً. ربما اختار نجيب محفوظ اسمه تعبيراً عن كونه متورى بين الناس لكنه دائم الحضور فى كل زمن.
والآن يطل كما شاء، فعقب ريح الذكاء الاصطناعى، وتطور الطب، وتسارع الابتكارات، وموت الأيديولوجيات، ومع الغلاء الخانق، والانكماش اللافت، وضيق العيش، انتفخت أورام المجتمع المصرى مرة أخرى، فبانت عوراته.
على السوشيال ميديا، نلمح بعضها سمات مُحبطة لم تكن حاضرة، تتنوع بين شماتة فى موت أو سقوط إنسان، وفضح علنى لأسرار وكشف لأستار بشر، وتحريض سافر على مخالفين، وتنمر ضد مختلفين.
على الفيس بوك وتوابعه تُقام الحفلات الافتراضية كل يوم دون أسباب واضحة، تتناثر الشائعات،وتُبدد الطاقات والأوقات والأفكار فى تسلية الناس بمخاز ومنكرات. تستمع كل يوم الفاسدين يناطحون ضد الفساد، وقليلى دين وأدب هاتفين بنصرة الأخلاق والدفاع عن الدين. تبصر أعناقاً مُطأطئة وأيادٍ ممدودة وعقول مُغلقة، وقطيع يسير خلف قطيع نحو حافة هاوية.
يلحظ كل ذى لُب انحداراً لافتاً فى منظومة الأخلاق، يسمع بأذنه نمائم الآخرين، يبصر ولائم لحم الناس، يتابع تبدلات مواقفهم، يعتاد إساءة الظن، ويتابع رصاص الكلام يطلق عشوائياً ليصيب كل شىء، وتعم الفوضى.
يبدو نجيب محفوظ مُعلماً راقياً انفعل بوجع السقوط المجتمعى فى الثلاثينيات فأبدع روايته الساحرة، وترك لنا محجوب عبدالدايم رمزاً للوصولية ونموذجاً لتدنى الأخلاق. ترى لو عاش أديب نوبل زماننا وأبصر وشهد وشاهد ما جرى فى بر مصر، ماذا كان عليه أن يكتب؟
الله أعلم