ابن سندر|عقار التحدي والصراع.. الدولة تتحدي جبروت المخالفين
في قلب حي الزيتون، وتحديدًا في العقار رقم ٣٧ د/ج شارع ابن سندر، يقف مبنى بات أشبه بملف مفتوح عن فوضى البناء المخالف، عقار مرخص له أرضي ودوران وغرف خدمات، لكن شراهة المخالفين حملته على كتفيها إلى دورين ونصف مخالفين، في تحد سافر للقانون وقرارات الإزالة التي صدرت ونُفذت بحق العقار مرات متكررة، تجاوزت العشرين تنفيذًا فعليًا، في واقعة نادرة الحدوث داخل نطاق حي واحد.
العقار لم يكن مجرد مخالفة عابرة، بل تحول إلى خطر حقيقي يضغط بثقل الخرسانة على سكانه والمجاورين له، في منطقة كثيفة السكان، تفتقر شوارعها الضيقة إلى أي هامش للخطأ، حيث يعني انهيار جزئي كارثة إنسانية كاملة، ورغم ذلك، كان المشهد يتكرر بشكل عبثي: إزالة في الصباح، وبناء في الليل، وعمال يعملون بلا توقف، وأموال تنفق بالملايين، وكأن هناك سباقًا خفيًا بين الدولة والمخالفين، كل طرف يحاول أن يسبق الآخر بخطوة.
خلال جولة ميدانية في نطاق الحي، التقى "صحفي الوفد" برئيس حي الزيتون اللواء محمد السيد مزيد، وسكرتير الحي أحمد محمدي، حيث دار حديث صريح عن أبراج تظهر فجأة في الأحياء الشعبية، أدوار تنبت كالفطر في أيام قليلة، دون تراخيص أو اشتراطات، لتتحول في وقت قياسي إلى تهديد مباشر للأرواح قبل أن تكون مخالفة على الورق.
وأكد اللواء مزيد أن الحي يخوض معركة مفتوحة مع هذا النوع من المخالفات، مشيرًا إلى أن الأجهزة التنفيذية تعمل حاليًا على محاصرة تسعة أبراج مخالفة تم رصدها خلال الفترة الأخيرة بعد تولي رئاسة الحي، وتنفيذ قرارات الإزالة الصادرة بحقها تباعًا، في الوقت الذي يتم فيه التعامل يوميًا مع مخالفة جديدة داخل نطاق الحي، لكنه أوضح أن حجم الظاهرة يفوق الإمكانيات الحالية، وأن هناك حاجة حقيقية إلى دعم بشري أكبر وإلى ضخ عناصر جديدة قادرة على العمل الميداني المتواصل.
من جهته، أوضح سكرتير الحي أن العمل لا يقتصر على الإزالات فقط، بل يمتد إلى الرصد المبكر، مؤكدًا أن فرق المتابعة تكثف جهودها لاكتشاف أي شروع في بناء مخالف منذ لحظاته الأولى، تفاديًا لتحول المخالفة إلى كيان خرساني ضخم يصعب التعامل معه لاحقًا، مشددًا على أن مواجهة المخالف في بدايته أقل كلفة بكثير من تركه يكتمل ثم محاولة هدمه فوق رؤوس الجميع.
ومن داخل موقع الحدث، انتقل "صحفي الوفد" إلى معاينة تنفيذ قرار إزالة الدورين والنصف المخالفين بعقار ابن سيندر، حيث كان المشهد مختلفًا هذه المرة؛ عمال الإزالات يباشرون الهدم يدويًا باستخدام المطارق الثقيلة، وتعلو أصوات الحديد المتكسر فوق الضجيج اليومي للمنطقة، في رسالة صريحة بأن القرار لم يعد قابلًا للتأجيل.
وخلال التنفيذ، ظهر شخص يدعي أحقية إيقاف الإزالة، دون أن يحمل أي صفة قانونية أو مستند رسمي، او صدر قرار بإسمه الشخصي، في مشهد يكشف جانبًا آخر من الأزمة، حيث لم تعد المخالفة مجرد طوب وأسمنت، بل شبكة من محاولات التعطيل، والتدخل غير المشروع، وفرض الأمر الواقع على أجهزة الدولة.
في تلك اللحظة، تدخل على الفور عمرو إمام مدير متابعة حي الزيتون، مطالبًا باستدعاء شرطة المرافق لتأمين الموقع، ولم تمر دقائق حتى حضر المقدم أحمد خلف، وتم فرض السيطرة الكاملة على المكان، وانسحب المتدخلون في صمت، بينما استكملت أعمال الإزالة دون توقف، وسط إشراف مباشر من مسؤولي المتابعة والإزالات.
لم يكن المشهد مجرد تنفيذ قرار، بل إعادة ضبط لعلاقة الدولة بالقانون داخل شارع اعتاد الفوضى، المواطنون الذين تابعوا عملية الهدم عن قرب، بدت على وجوههم علامات ارتياح ممزوج بالحذر، فهم شاهدوا هذا المشهد من قبل، وتعودوا أن يروا العقار يعود للظهور في غضون أيام، وكأن شيئًا لم يكن.
الخشية التي تسكن نفوس الأهالي لم تعد متعلقة بالإزالة، بل بما بعدها، هل تعود المخالفة مرة أخرى؟ هل يستطيع المقاول أن يتسلل فجراً ليعيد البناء؟ أسئلة معلقة في الهواء، لكنها تعكس إدراكًا عامًا بأن المشكلة لا تنتهي بالهدم وحده، بل تحتاج إلى رقابة مستمرة وعقوبات رادعة، تطال المنفذين قبل المتواطئين.
ويرى متابعون للشأن المحلي أن تكرار الإزالة لنفس العقار أكثر من عشرين مرة يفتح ملفًا أكبر من مجرد مخالفة بناء، إذ يشير إلى خلل في منظومة الردع، وغياب كلفة حقيقية تجعل المخالف يتوقف من تلقاء نفسه، فالهدم وحده لا يكفي إذا كان يعقبه بناء بلا مساءلة حقيقية، ولا رادع يمنع التكرار.
ورغم ذلك، تعكس واقعة ابن سيندر صورة أخرى للدولة وهي تحاول استعادة هيبتها عبر العمل الميداني المستمر، حيث لم يعد التنفيذ يتم من خلف المكاتب، بل من قلب الشارع، تحت أعين المواطنين، في محاولة لكسر حالة التآلف بين المخالفين وفكرة الإفلات من العقاب.
ويبقى عقار ابن سيندر شاهدًا على معركة لم تحسم بعد، لكنها تسير في اتجاه واضح، إما أن تنتصر قرارات ازالة الفوضى العقارية، أو تبتلعها العشوائية حجرًا فوق حجر، وبين هذا وذاك، يدفع المواطن البسيط الثمن الأكبر، حين يعيش تحت سقف لا يثق في ثباته، وفي شارع لا يعرف متى يتحول إلى ركام.