في اللحظة التي بدأت فيها معنويات الغرب في التراجع، وخطوط الجبهة الأوكرانية بالتآكل، ظهرت إلى العلن مسودة خطة سلام أمريكية منسوبة إلى دونالد ترامب، قوامها 28 نقطة، جرى إعدادها بين مبعوثه ستيف ويتكوف وممثلين عن الكرملين. وقد قُدّمت بوصفها “حلًا واقعيًا” لحربٍ طال أمدها، لكنها سرعان ما كشفت عن نفسها كمشروع فشل سياسي وأخلاقي واستراتيجي.
فبحسب ما تسرّب من تفاصيلها، تطالب الخطة أوكرانيا بالتنازل الفعلي عن شبه جزيرة القرم وأجزاء واسعة من دونيتسك ولوغانسك، مع فرض قيود صارمة على حجم وتسليح جيشها، والتخلّي نهائيًا عن حلم الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. وفي المقابل، تُمنح كييف ضمانات أمنية “محدودة” ووعود بإعادة الإعمار، بينما تُكافَأ موسكو بتخفيف العقوبات واستعادة جزء من شرعيتها الدولية، العودة إلى مجموعة الدول السبع. و رفع العقوبات المفروضة عليها تدريجياً وتعاون اقتصادي مع أمريكا في عدة مشاريع .
هذه ليست تسوية متوازنة بين طرفين متحاربين، بل تقنين لنتائج الغزو الروسي تحت مسمى “السلام”. لذلك جاء موقف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حاسمًا عندما أشار إلى أن بلاده تقف بين خيارين: فقدان الدعم الأمريكي أو فقدان كرامتها، مؤكدًا أن أوكرانيا لن تختار الاستسلام، حتى لو كلفها ذلك أثمانًا باهظة.
في أوروبا، لم تُستقبل الخطة كفرصة لإنهاء الحرب، بل كجرس إنذار خطير. شبّهت صحف ومحللون ما يحدث باتفاق “ميونخ جديد”، مستحضرين مؤتمر ميونيخ عام 1938 الذي سمح لهتلر بضم أجزاء من تشيكوسلوفاكيا مقابل السلام السريع، معتبرين أن واشنطن تعيد إنتاج نفس المنطق: مكافأة المعتدي بدلًا من ردعه، وتهميش أوروبا في اتخاذ قرارات أمنها. ومع تصاعد الشكوك، بدأت أصوات أوروبية تطالب بتأسيس مظلة دفاع مستقلة وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، بعدما اهتزّ اليقين بدورها كضامن استراتيجي للقارة.
أما داخل الولايات المتحدة نفسها، فقد فجّرت الخطة انقسامًا واضحًا. إذ يرى فريق أنها مقاربة “براجماتية” تُنهي حربًا مكلفة بلا أفق واضح
فسيطرة روسيا على دونيتسك ولوغانسك تبدو اليوم أمرًا واقعًا لا رجعة فيه سياسيا
واذا كانت روسيا : فشلت في تحقيق أحلام السيطرة الكاملة،علي كييف فإن الأخيرة غير قادرة علي استعادة ارضها المحتلة وعليه أن تدرك ان هذه الحرب ذات التكلفة البشرية والمالية الباهظة وصلت إلى طريق مسدود ..
.
، بينما يعتبرها آخرون في أمريكا خيانة لمبادئ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ونسفًا لمصداقية واشنطن الأخلاقية ودورها التاريخي في الدفاع عن سيادة الدول. وفي نظر كثيرين، بدت الخطة مدفوعة بحسابات ومصالح ترامب قصيرة المدى، لا برؤية استراتيجية طويلة الأمد. ..
الأكثر خطورة هو الأسلوب الذي رافق عرض الخطة. فقد أشارت تقارير إلى ممارسة ضغوط مباشرة على كييف للقبول بها، من خلال التلويح بوقف تبادل المعلومات الاستخباراتية وتعليق شحنات السلاح والدعم اللوجستي. وهو ما جعل المقترح أقرب إلى “إملاء تحت التهديد” منه إلى مفاوضات سلام بين أطراف متكافئة. والتجارب التاريخية تُظهر أن أي سلام يُفرض بالإكراه لا يصمد، بل يتحول إلى بذرة صراع جديد أكثر عنفًا وتعقيدًا.
صحيح أن روسيا لم تحقق نصرًا ساحقًا في الميدان، لكنها نجحت في فرض نفسها طرفًا لا يمكن تجاوزه، وانتزعت اعترافًا ضمنيًا ببعض مكاسبها.
لكن هذه الخطة تخدم هدفهم على المدى الطويل من خلال:
تقسيم الغرب: فالخطة ستحدث انقسام واضح بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وبين ترامب وإدارته من جهة، والقيادة الأوكرانية من جهة أخرى، وهو ما يعد انتصاراً لموسكو في حرب المعلومات والتأثير.
و شرعنة المكاسب : فالهدف النهائي هو تثبيت المكاسب الإقليمية التي حققتها روسيا ، مما يلغي فعليًا إدانات الغرب للضم القسري..
غير أن هذه “الإنجازات الروسية نفسها تحمل في داخلها عوامل انهيارها:
فالأوكرانيون لن يقبلوا بها، والأوروبيون لن يثقوا بنتائج خطة ترامب والعالم بأسره سيتذكر أن العدوان يمكن أن يُكافَأ إذا كان مدعومًا بما يكفي من القوة والضغط السياسي. .
هذه الخطة لا تمثل تسوية حقيقية، بل استسلامًا شبه غير مشروط واعترافًا عمليًا بنتائج الاحتلال، ما يفتح الباب لتكرار السيناريو ذاته في مناطق أخرى من العالم. وكان الأجدر بأي مسار تفاوضي جاد أن يبدأ من نقطة معاكسة تمامًا: تقليص الوجود العسكري الروسي في أوكرانيا
والعمل في أقل تقدير علي إعادة الأراضي المحتلة بضمانات أمنية لموسكو ، لا تثبيت السيطرة عليها تحت غطاء دولي.
لذلك في النهاية، تبدو خطة ترامب مرشّحة للفشل،
فالتاريخ لم يرحم السلامات المفروضة بالقهر
فصلح فرساي الذي اذل ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى مهد للحرب العالمية للثانية
ومؤتمر ميونخ 1938 مهد لهتلر اجتياح أوروبا .
و خطة ترامب في هذا السياق
تتناقض مع منطق الاستقرار طويل المدى، وتكرّس منطق القوة في تعديل الحدود الجغرافيا لأوروبا على حساب القانون والعدالة، وتفتح الباب أمام نظام عالمي أكثر فوضوية وخطورة.
والواقع السياسي يؤكد أن أي سلام مفروض بالإكراه لا يعيد الثقة، بل يزرع بذور الصراعات المستقبلية.