تبدو أسطورة “وادي الملوك الأول” واحدة من أكثر الحكايات انتشارا ً في السنوات الأخيرة، تتنقل بين المنتديات والمقاطع الغامضة كخبرٍ محجوبٍ عمّا يدّعيه البعض من “سر هائل” تخفيه مصر. وتزداد القصة تشويقا ً حين تمتزج بعناصر أسطورية من نوعية: اختفاء بعثة حاولت الكشف عن الوادي، وجود أربعة أنبياء مدفونين فيه، ثم "الرقاقات الذهبية السبع" التي قيل إنها تحمل علوما ً لم يعرفها البشر من قبل؛ ورغم أن هذه العناصر تبدو متقنة الحبكة إلا أنها في النهاية تبدو نتاج خيال خصب يختلط فيه التاريخ بالأسطورة، والرغبة بالدهشة، والهوى بحقائق لا يمكن تجاوزها
تبدأ الأسطورة بفرضية وجود “وادي ملوك أول” يسبق الوادي المعروف في الأقصر، وأن هذا الوادي لم يُكشف بسبب “قوة خفية” أو “جهات تريد إخفاء الحقيقة”. ورغم جاذبية هذه الفكرة، فإن الواقع العلمي يناقضها تماما ً. فالوادي المعروف اليوم خضع لمسح دقيق بأحدث تقنيات الجيولوجيا والاستشعار الراداري، كما تمت دراسته على مدار قرنٍ كامل من آلاف العلماء والباحثين من مختلف دول العالم، ومع كل الخرائط الطبقية والملفات البحثية الضخمة، لم يظهر ما يشير إلى وجود امتداد خفي أو وادٍ موازٍ أو مقابر مدفونة خارج نطاق المساحة الموثقة.
لكن الأسطورة لم تتوقف عند هذا الحد، بل تضخّمت بإضافة عنصر أكثر إثارة: “اختفاء بعثة أجنبية بعد أن اقتربت من الوادي الأول” ؛ وهي قصة بلا جذور ولا وثائق ولا سجل واحد في أرشيف وزارة الآثار أو في السجلات الدولية للبعثات العلمية. فالبعثات الأجنبية لا تعمل سرا ً، ولا تستطيع الحفر دون إذن رسمي، ولا يمكن اختفاء فريق كامل في عصر تتبع الطائرات، وتقارير البعثات المنشورة، والرقابة الحكومية الدقيقة على كل متر في وادي الملوك .
ومع ذلك، تظل قصة “الاختفاء” عنصرا ًمشوقاً ومحببا ً لدى صناع الأساطير لأنها تمنح الحكاية تلك اللمسة الغامضة التي تخلق جدلا ً وإنتشارا ً واسعا ً.
ثم تنتقل الرواية إلى أكثر أجزائها حساسية: وجود أربعة أنبياء مدفونين في الوادي، وهو ادعاء لا يتفق لا مع التاريخ ولا مع علم المصريات ولا مع بنية الوادي نفسه. فالمصريون القدماء لم يدفنوا الأنبياء الإبراهيميين الذين كانت مواقع حياتهم ومماتهم مختلفة تماما ً من حيث الجغرافيا والزمن، كما لم يُعثر داخل الوادي على أي نقش ديني أو لغوي يشير إلى وجود شخصيات غير مصرية، فضلا ً عن أن كل المقابر المكتشفة — على امتداد الأسرة الثامنة عشرة حتى العشرين — تخص ملوكا ً وكهنة وأمراء مصريين فقط. ورغم ذلك، تبقى فكرة “دفن الأنبياء” مدخلاً مغريا ً لمن يبحث عن قدسية مضافة لمكانٍ يراه أصلا ً مهيبا ً وغامضا ً.
أما العنصر الأكثر غرابة وإثارة فهو “الرقاقات الذهبية السبع” التي يقال إنها تحوي علوما ً لم يعرفها البشر، وهي رواية تمزج بين الأساطير السومرية والهرمسية وخيالات “العصر الجديد”؛ فالذهب في الحضارة المصرية كان رمزا ً للأبدية والنقاء، لكنه لم يُستخدم يوما ً كحامل لعلوم ٍ سرية أو معارف خارقة، ولو وُجدت بالفعل رقاقات ذهبية تحمل كتابة مجهولة أو رموزًا فريدة، لأعلنت عنها مصر والعالم في اللحظة نفسها، فمثل هذا الكشف لا يمكن إخفاؤه، ولا يحتمله أي نظام علمي أو سياسي.
ومع كل هذا التفنيد العلمي لا تزال الأسطورة تتغذّى على رغبة البشر في الإيمان بما هو أعجب من الواقع. فالحضارة المصرية — بما تحمله من رموز وقوة وغموض — تُغري دائما ً بصناعة قصص تزدحم بين القداسة والدهشة، وتساعد وسائل التواصل الاجتماعي على تضخيم هذه الروايات، فكلما كانت القصة أغرب، كان انتشارها أسرع وأكثر تأثيرا ً في مخيلة المتلقي.
وبرغم وضوح الحقائق، يبقى وادي الملوك مكانا ً يعرف كيف يحرس أسراره فالتاريخ المصري كثيرا ً ما فاجأ العالم باكتشافات غير متوقعة، وبدد قناعات راسخة ظل العلماء يؤمنون بها عقودا ً. لذلك؛ قد يكون من السذاجة اعتبار أن كل شيء قد كُشف، أو أن صفحات الوادي قد تم قراءتها بالكامل.
وربما - فقط ربما - يحمل الغد كشفا ً يهزُّ الثوابت ويعيد رسم حدود معرفتنا بهذا المكان الأخّاذ.
وربما يفاجئنا القدماء المصريون يوما ً بما يعيد طرح السؤال من جديد:
هل كانت أسطورة “وادي الملوك الأول” مجرد خرافة؟ أم نبوءة مبكرة لكشف ينتظر اللحظة المناسبة ليكشف الستار؟