شَرْطَةٌ مائلة
في صباح السابع من أكتوبر 2023م؛ بدأ بنيامين نتنياهو فور استيقاظه العمل على رسم طريق النجاة السياسية من الفشل الأمني الأخطر في تاريخ إسرائيل، ومنذ اللحظة الأولى برز أحد الأساليب التي استخدمها، وتتمثل في المقارنة التي أجراها هو وحاشيته ومواليه بين أحداث طوفان الأقصى وبين "المحرقة" المزعومة التي يروج اليهود أن النظام النازي "ارتكبها ضدهم خلال الحرب العالمية الثانية".
تُعدّ "المحرقة" في السرديات اليهودية الإسرائيلية حدثًا تأسيسيًا فريدًا من نوعه، حدثًا لا مثيل له ولن يتكرر في الفكر اليهودي الصهيوني الإسرائيلي، حتى أنه حدث "تُحرَّم" مقارنته بأي حدث آخر، وقد أقرّت المحكمة العليا الإسرائيلية بأن وصف شخص بأنه "نازي" ليس مجرد سب عادي، بل قذف يستوجب التعويض، لذلك، فإن المقارنة التي قادها نتنياهو وشركاؤه السياسيون من التيارات المَشيحانية والعنصرية المتطرفة بين "المحرقة النازية" المزعومة وبين طوفان الأقصى لم تكن فقط سخيفة من الناحية التاريخية والعددية، خصوصا وأن إسرائيل ترتكب يوميا مذابح إبادة جماعية بحث الفلسطينيين، في غزة أو الضفة، لكن أيضًا كسرت أحد التابوهات المقدسة في الوعي اليهودي الإسرائيلي العام.
نتنياهو الذي يتهرب حتى الآن من محاكمته استفاد كثيرا من مقارنته بين "المحرقة" وبين أحداث طوفان الأقصى، ويمكن أن تكون أبرز مكاسبه السياسية متمثلة في أن هذه المقارنة قد أخرجت فشله وحكومته وجيشه في 7 أكتوبر من السياق التاريخي، محوّلة طوفان الأقصى إلى حدث "فوق تاريخي"، أشبه بانحراف كوني من حجم "المحرقة" نفسها، ما يخدم هدف نتنياهو المركزي، وهو التهرب من المسؤولية.
ومن ثمَّ يسعى بيبي لمنع تشكيل لجنة تحقيق رسمية في أحداث السابع من أكتوبر 2023، في محاولة واضحة لتجنب تحميله مسؤولية سياسية أو شخصية عن الإخفاقات الأمنية، وكشفت صحيفة يديعوت أحرونوت أن نتنياهو يخطط لتعديل قانون "لجان التحقيق الرسمية" بحذف البند الذي يتيح للجنة إصدار توصيات ضد أفراد محددين، وبسحب صلاحية تعيين أعضائها من رئيس المحكمة العليا لصالح الحكومة، كما يبحث خيارين بديلين يمنحانه سيطرة أكبر، أولهما تشكيل لجنة فحص حكومية، والثاني سنّ قانون جديد لتوسيع نفوذ الحكومة على لجان التحقيق.
كذلك غذّت المقارنة بصورة محمومة مشاعر الغضب والانتقام، وكانت محورًا رئيسًا في "خطاب الثأر" الذي شجعه نتنياهو وائتلافه المتطرف من أنصار "التفوق اليهودي"، هذه المقارنة جردت الفلسطينيين من إنسانيتهم، وشجعت حرب الإبادة ضدهم، وكل ذلك خدم نتنياهو لإطالة أمد الحرب التي أبقاها، كي يمنع تفكك ائتلافه المتطرف والذهاب إلى انتخابات مبكرة، حتى ولو كان الثمن حياة أسراه الذين قُتلوا برصاص الجيش الإسرائيلي، وجنوده الذين سقطوا في معارك غزة، كما ساعدت المقارنة بين الفلسطينيين والنازيين نتنياهو في هدفسياسي ملح يتمثل في دق إسفين بين الأحزاب العربية في الكنيست وبين معسكر معارضيه اليهود.
وبهذا، يصوّر نتنياهو نفسه كـ"قائد" يواجه قوى الشر المطلقة، لا كإرهابي ينتهج الإبادة، ويتهرب من قضايا الرشى والفساد وخيانة الأمانة، ولا كمسؤول أخفق في منع اختراق غير مسبوق للمنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، فإذا كان الحديث عن "محرقة ثانية"، فماذا بوسع أي قائد أن يفعل أمام قدر بهذا الحجم، وهكذا؛ صنع نتنياهو من "المحرقة" المزعومة مظلة أيديولوجية لارتكاب محرقة حقيقية في غزة، فقط لينجو بنفسه.
محمد عبد الدايم هندام، كاتب وشاعر، صحفي حر، أكاديمي، مُحاضر الأدب العبري الحديث والدراسات الإسرائيلية، كلية الآداب، جامعة المنصورة.
[email protected]