السودان، هذا الوطن الممتد كوشاح من النيل إلى الرمل، يتأرجح اليوم بين ذاكرة الماء وصدى الرصاص. بلد طالما علّمنا أن للهدوء نكهة النهر، وللشجن طعم الغروب على ضفافه، صار الآن مرآةً تعكس وجعًا إنسانيًا لا يهدأ.
لم يعد المشهد هناك يحمل ملامح الطمأنينة التي كانت تفيض من أغاني الحصاد ودفء البيوت الطينية، بل صار مثقّلًا بوجع المدن التي تحترق ببطء تحت دخان البنادق.
منذ اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، تبدّد الأمل شيئًا فشيئًا. في دارفور، حيث اختلط الرمل بالدم، صارت الأنهار شاهدة على جثث المدنيين الذين لم يعرفوا سوى الزراعة والسكينة. تساقطت المدن كأوراق الخريف، وسقطت الفاشر بعد حصار دام شهورًا طويلة، لتغدو عنوانًا جديدًا لخرابٍ يمتد ولا يتوقف.
وفي خضم هذا الخراب، خمدت أصوات الطفولة، وتلاشى صدى المدارس، وصار البقاء نفسه معركة يومية يخوضها المدنيون وحدهم.
الصور القادمة من هناك تفيض بالوجع: أمّ تبحث عن ابنها بين الركام، متطوع في الهلال الأحمر يسقط برصاصٍ لا يفرّق بين من يداوي ومن يقتل، وأطفال يعبرون الصحراء حفاة بأعين زجاجية فقدت الدهشة. خمسة من العاملين في الإغاثة قُتلوا أثناء أداء واجبهم الإنساني، وثلاثة ما زالوا في عداد المفقودين، كأن الحرب تبتلع حتى من يرمّم آثارها.
العنف صار لغة الشوارع، والنجاة حظًا عابرًا. فالاختباء لم يعد ممكنًا، بعد أن صارت السماء شريكًا في الحرب، تراقبها طائرات المسيّرات وتغلق على الناس طرق الهرب.
في تقارير المنظمات الدولية، يرد الحديث عن عمليات قتل جماعية، وعن نساء يُستهدفن بالعنف، وعن قرى تُمحى من الخرائط. لكن أكثر ما يوجع ليس ما يُكتب في التقارير، بل ما لا يُقال: ذلك الخوف المزمن الذي استوطن القلوب، وذلك الإحساس بأن الأرض نفسها فقدت ذاكرة الطمأنينة.
كأن السودان، بكل تاريخه ونيله وسهوله، يقف الآن أمام مرآة مشروخة يرى فيها ماضيه الجميل يتقاطع مع حاضره المظلم.
وفي خضم هذا النزيف، تتنازع القوى الإقليمية والدولية على أرضٍ أنهكتها الحروب. لكل طرف مصلحة، ولكل جهة حليف، بينما الشعب وحده من يدفع الثمن. المدن تُقصف، القرى تُهجّر، والملايين ينزحون بحثًا عن مأوى أو لقمة أمان. ومع كل طلقة، تتسع الفجوة بين ما كان يمكن أن يكون، وما صار واقعًا مريرًا.
لكن رغم كل شيء، يظل في السودان ما يستحق الحياة. هناك من يصرّ على زرع القمح في أرضٍ مثقلة بالدخان، ومن يعلّق آيات السلام على جدران بيته المهدّم، ومن يهمس لطفله: “سيعود النيل يومًا صافيًا كما كان”.
هذه الأصوات البسيطة هي ما تبقي الوطن واقفًا في وجه الريح، تُذكّره بأن الروح لا تموت ما دامت تتشبث بالأمل.
وللسودان نقول: سلامٌ على أرضٍ أنهكتها البنادق لكنها لم تفقد الحلم، على نيلٍ ما زال يجري كأنه يتذكّر وجوه العابرين، على مدنٍ تنتظر الغد بثقة الصابرين.
سلامٌ على وطنٍ يضمد جراحه بالصبر، ويقاوم كي يظل حيًا في ذاكرة النهر والتاريخ.