خبراء يدعون لضرورة إصلاح النظام التجاري العالمي متعدد الأطراف
انطلقت صباح اليوم فعاليات اليوم الثاني والأخير لمنتدى القاهرة "CAIRO FORUM2" في دورته الثانية، حيث ناقشت الجلسة الأولى: "مستقبل سياسات التجارة الدولية في عالم شديد الاضطرابات: تحديات التنبؤ والاستقرار اللازمين لاتخاذ قرارات الاستثمار.
أدار الجلسة عبد الحميد ممدوح المستشار القانوني الأول لمكتب "كينج أند سبالدينج" بجينف، والمدير السابق للتجارة في الخدمات والاستثمار بمنظمة التجارة العالمية، وتحدث فيها المهندس وليد جمال الدين رئيس المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، محمد الجوسقي مساعد وزير الاستثمار والتجارة الخارجية للتخطيط والتطوير والتحول الرقمي، السفير آلان وولف زميل أول معهد بيترسون للاقتصاد الدولي عبر تقنية الفيديو كونفرانس، والدكتور سيفان شيبرز المدير التنفيذي للمجموعات المستقلة رفيعة المستوي لابتكار سياسات الاتحاد الأوروبي، وفاليري بيكارد رئيس قسم التجارة بغرفة التجارة الدولية، الدكتور سايمون إيفينيت استاذ العلوم الجيوسياسية والاستراتيجية بسويسرا عبر تقنية الفيديو كونفرانس.
قال وليد جمال الدين رئيس المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، إن العالم يشهد اليوم «تأثيرًا مضاعفًا غير مسبوق خلال الأشهر التسعة الماضية» غيّر مسار الاستثمار والتجارة الدولية، مؤكدًا أن هذه التحولات ستعيد تشكيل خريطة التصنيع وسلاسل الإمداد العالمية في السنوات المقبلة.
وأوضح جمال الدين، أن الولايات المتحدة، رغم قوتها الاقتصادية التي يبلغ ناتجها المحلي نحو 30 تريليون دولار، ارتكبت «قرارًا أحاديًا أضر أولًا باقتصادها وبشعبها»، مشيرًا إلى أن التصنيع الأمريكي يمثل نحو 18.4% فقط من الناتج المحلي، أي ما يعادل 4.4 تريليون دولار من السلع المصنعة، مضيفًا: «يمكنك جمع مئة دولة ناشئة معًا، ولن تصل إلى هذا الرقم، لكن أي محاولة لإعادة التصنيع في الداخل الأميركي ستكون مكلفة للغاية».
وأشار إلى أن هذه السياسات أدت إلى إضعاف العملة الأمريكية وتراجع القوة الشرائية للمواطنين وارتفاع معدلات التضخم، بينما «أصبحت أوروبا أقل قدرة على المنافسة»، نتيجة ارتفاع اليورو من دون مبرر. وأكد أن الاقتصاد العالمي يعيش اليوم «عاصفة تشبه فترة كوفيد» مع اختلالات في الإنتاج والتمويل والاستثمار.
وفي المقابل، لفت إلى أن الصين، التي يبلغ ناتجها المحلي نحو 20 تريليون دولار، يعتمد اقتصادها على التصنيع بنسبة 40% موضحًا أن «الفارق الحقيقي يكمن في الكفاءة وتوزيع مراكز الإنتاج»، وهو ما يدفع الشركات العالمية إلى التحول نحو الدول الناشئة ذات الكفاءة والتكلفة الأقل ، مثل مصر، التي تمتاز بـ«العمالة الماهرة، وتكاليف الطاقة التنافسية، والقرب من الأسواق العالمية».
وقال: «لدينا في مصر فرصة ذهبية قد لا تتكرر خلال الـ24 شهرًا القادمة لجذب المستثمرين الباحثين عن قاعدة إنتاج مستقرة ومنصة انطلاق للأسواق الإقليمية»، مشيرًا إلى أن المنطقة الاقتصادية لقناة السويس أصبحت من أبرز المستفيدين من هذا التحول، إذ نجحت في جذب 11 مليار دولار من الاستثمارات خلال ثلاث سنوات ونصف فقط، منها 80% استثمار أجنبي مباشر، بعد أن كانت الاستثمارات لا تتجاوز 2 مليار دولار في السنوات السبع الأولى لتأسيس المنطقة.
وأكد رئيس اقتصادية قناة السويس، أن هذا النجاح جاء نتيجة العمل الممنهج على بناء بنية تحتية متطورة ونظام بيئي صناعي متكامل يوفر للمستثمرين كل مقومات الكفاءة، مضيفًا أن المستثمرين اليوم «لا يسألون عن الحوافز المباشرة بقدر ما يهتمون بالحوافز غير المباشرة» مثل توفر الكفاءات البشرية، وتكاليف التشغيل، وموقع المنطقة على محور قناة السويس الذي يتيح الوصول للأسواق الأوروبية والآسيوية والإفريقية بسهولة.
وقال محمد الجوسقي مساعد وزير الاستثمار والتجارة الخارجية، أن العالم يشهد مرحلة تحول كبيرة في نظم التجارة العالمية تعمق لفكرة البقاء للأقوى، مشيراً إلى أن العولمة التي عرفناها خلال العقد الماضي بدأت تتراجع، وأن الاقتصادات الناشئة، وعلى رأسها الصين، تواجه اليوم تحديات وجودية جديدة.
وأوضح المستشار أن التحديات لا تتعلق فقط بالتصنيع وكفاءة سلاسل الإمداد، بل تشمل التعريفات الجمركية، والحدود، والدعوات لتفكيك النظام التجاري متعدد الأطراف، وهو ما يمثل خطراً على النظام البيئي التجاري العالمي بأكمله، حتى لو كان أثره المباشر على مصر محدوداً نسبياً.
وأشار إلى أن مصر تدعم النظام متعدد الأطراف باعتباره السبيل الوحيد لضمان مشهد تجاري عالمي متوازن وعادل، مع التأكيد على ضرورة إصلاح المؤسسات التجارية بما في ذلك نظام التسوية داخل منظمة التجارة العالمية، مشدداً على أن "الكلمات وحدها لا تكفي، بل يجب التحرك عملياً لتطبيق الإصلاحات".
وأضاف المستشار أن مصر اتخذت خطوات فعلية لتعزيز تنافسيتها، عبر صياغة أول سياسة للتجارة الخارجية، وإجراء إصلاحات هيكلية على مستويات متعددة، وتحسين الإجراءات التشغيلية، مثل تقليص وقت التخليص الجمركي من أكثر من 15 يوماً إلى 5.8 يوم حالياً، مع استهداف يومين قبل نهاية العام، مما سيترجم إلى توفير نحو 150 مليون دولار سنوياً.
وأشار إلى أن التغيير في التجارة والاستثمار هو الثابت الوحيد، وأن التحديات العالمية تمثل أيضاً فرصاً، معتبراً أن بقاء الدولة في المنافسة يعتمد على قدرتها على التكيف والتحسين المستمر. وأضاف: "كما يقول المثل الإفريقي، إذا أردت أن تذهب سريعاً اذهب وحدك، وإذا أردت أن تذهب بعيداً، فنذهب معاً"، مؤكداً على أهمية التعاون الدولي لتحقيق النمو المشترك.
وقال سايمون إيفينيت استاذ العلوم الجيوسياسية والاستراتيجية بسويسرا عبر تقنية الفيديو كونفرانس، أن سياسات التجارة الخارجية الأمريكية مرت بثلاث مراحل في تاريخها، الأولى بالتزامن مع الحرب العالمية الثانية حيث أعطت الولايات المتحدة الأولوية للاعتبارات الامنية التى باتت تحرك قراراتها الاقتصادية وتحكمت في تصميم سياساتها الخارجية، ولكن مع انتهاء الحرب وتشكيل منظمة التجارة العالمية، دخلت الولايات المتحدة فيما يمكن تسميته بالمرحلة الثانية التى باتت فيها هي القوة الاقتصادية المهيمنة دون منازع، والتي وضعت أسس النظام التجاري العالمي القائم على تحرير الأسواق، وهو ما سمح بتطور سلاسل الإنتاج العالمية وتبادل التكنولوجيا دون قيود، وكانت الصين من أكثر الدول استفادة من تلك السياسات.
وتابع، المرحلة الحالية تشهد تحولا جديدا في النهج الأمريكي، إذ باتت واشنطن تنظر إلى الصين باعتبارها المنافس الاستراتيجي الأول، خاصة في مجالات التكنولوجيا والتجارة الإلكترونية، الأمر الذي دفعها إلى إعادة صياغة سياساتها التجارية وفرض قيود جديدة تخوفا من خسارة "الحرب التكنولوجية" أمام الصين، وزيادة نفوذ الأخيرة في الاقتصاد العالمى وبزيادة زيادة قدرتها على الإنفاق العسكري، أعادت الولايات المتحدة وضع اعتبارات الأمن مرة أخرى في المقدمة باتخاذ قرارات للحد من قدرات الوصول والنفاذ لأسواقها لحماية أمنها القومي والحفاظ على تفوقها التقني.
وأضاف أن هذا التحول الأمريكي "يشل العديد من مبادئ النظام التجاري العالمي الذي اعتدنا عليه "، لكنه يمثل الاتجاه السائد حالياً. وتساءل: "بالنسبة لبقية الدول، بخلاف الصين والولايات المتحدة، أين نقف جميعاً؟ فالكثير من الدول الصغيرة تعتمد على التجارة الدولية الخارجية للحفاظ على مستويات معيشتها، والسؤال الآن هو: هل يمكن لتلك الكتلة أن تظل متماسكة وتحافظ على المبادئ التي قامت عليها منظمة التجارة العالمية؟، النظام التجاري العالمي يتكيّف اليوم مع واقع جديد "تعود فيه الاعتبارات الأمنية لتتصدر المشهد" فما نراه الآن هو عودة إلى الماضي.
وقال السفير آلان ووف زميل أول معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، أن الولايات المتحدة تخلت عن كافة التزاماتها وتعهدات التجارية الدولية بموجب الاتفاقيات الدولية، لقد تخلت عن منظمة التجارة العالمية ومستويات التعريفات الجمركية المتفق عليها تعاقديا ومعاملة الدول الأولى بالرعاية، كل ذلك لصالح التعريفات الأحادية من جانب واحد والصفقات التى تتوصل إليها.
وتابع، أن النظام العالمى متعدد الأطراف يوفر للاقتصاد العالمي مزيدا من القدرة على التنبؤ والاستقرار لجزء كبير من التجارة العالمية وهو أمر بالغ الأهمية، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تمثل سوى 13% من التجارة العالمية، والتى لا تطبق القوعد، إلا أنها استطاعت الوصول لاتفاقيات ثنائية مع العديد من الشركاء التجاريين مثل الاتحاد الأوروبي واليابان والمملكة المتحدة.
وعن مستقبل منظمة التجارة العالمية، شدد على أن استبعاد الولايات المتحدة من المنظمة سيكون خطأ جسيمًا، إذ لا يمكن تصور منظمة فاعلة دون مشاركة واشنطن، معتبرًا أن منظمة بلا دور أمريكي فعّال قد تواجه خطر التهميش على غرار ما حدث لعصبة الأمم في الماضي.
واقترح مجموعة من الملفات يتعين على المنظمة التعامل معها وتشترك فيها مصالح جميع الأعضاء، من بينها المعايير الفنية والصحية للمنتجات الحيوانية والزراعية، والتي قد تُعيق التجارة العالمية بقدر يفوق تأثير الرسوم الجمركية. وضرب أمثلة على ذلك بالنزاعات المتعلقة بـ هرمونات اللحوم والكائنات المعدلة وراثيًا، إلى جانب الاتفاق الأوروبي للحد من الانبعاثات الكربونية والذي قد يؤثر سلبًا على التجارة في بعض السلع.
وأضاف أن المرحلة المقبلة لا يُتوقع أن تشهد اتفاقيات تجارية جديدة ذات طابع رسمي، إذ لا يوجد إجماع دولي حول أولويات الإصلاح أو آلياته، لذلك، من المهم التركيز على تعزيز الشفافية في الإجراءات التجارية عبر تفعيل آلية مراجعة السياسات التجارية (TPR)لمتابعة التطورات في جميع الدول الأعضاء.
وفيما يتعلق بآلية تسوية المنازعات، فأكد ضرورة أن تكون الأحكام الصادرة ملزمة ونهائية دون استئناف، مشيرًا إلى أهمية انضمام الدول إلى الاتفاقيات المؤقتة التى جاءت بديلا عن تعطيل الولايات المتحدة لآلية المنازعات ضمن منظمة التجارة العالمية، وإيجاد حلول لضمان إلزامية القرارات.
وشدد على أن الولايات المتحدة، من خلال قيادتها النشطة وتعاونها مع عدد من الدول ذات التوجهات المتقاربة، أسست النظام التجاري العالمي الذي أسهم في تحقيق نمو اقتصادي غير مسبوق ورفاهية واسعة النطاق في التاريخ الحديث، أقر أن هذا النظام لم يكن خاليًا من العيوب، إذ لم يراعِ بشكل كافٍ الأبعاد الاجتماعية والتنموية ولكن التجربة أثبتت أن الازدهار لا ينعكس تلقائيًا على الجميع، فـ”المدّ العالي لا يرفع كل القوارب”، غير أن "الركود لا يحرك أي قارب على الإطلاق."
من ناحيته قال الدكتور ستيفان شيبرز المدير التنفيذي للمجموعات المستقلة رفيعة المستوى لابتكار سياسات الاتحاد الاوروبي، أن الاضطرابات التي يشهدها العالم اليوم ليست وليدة السنوات الأخيرة فقط، بل هي نتيجة تطورات أعمق بدأت منذ نحو عقدين، حين فقد الغرب احتكاره للبحث العلمي، وهو ما اعتبره تحوّلًا جوهريًا، لأن البحث العلمي يمثل الأساس لتطور التكنولوجيا، التي تُترجم بدورها إلى منتجات وخدمات جديدة تغذي التجارة الدولية، والتي تظل الأداة الرئيسية لنشر التقدم التكنولوجي وتعزيز رفاه الشعوب.
وأشار إلى أن إدراك بروكسل لهذه الحقيقة يتنامى بوضوح، فنحو 87% من التجارة العالمية تُدار خارج الولايات المتحدة، مما يجعل بقية العالم – وفي مقدمتهم أوروبا والصين طرفًا رئيسيًا في قيادة الاقتصاد العالمي وعليهم الاضطلاع بهذا الدور بشكل أكبر وأكثر تأثيرا المرحلة المقبلة.
وانتقد ستيفان السياسة الأمريكية الراهنة، معتبرًا أنها لا تعطل التجارة الدولية فحسب، بل تمتد لتقويض التعاون البحثي العالمي، موضحًا أن العديد من مؤسسات الأبحاث الأوروبية الكبرى تلقت مؤخرًا رسائل غير رسمية من دبلوماسيين أمريكيين تحذرها من التعاون مع الصين، وهو ما وصفه بأنه نهج يضر بالتقدم العلمي المشترك وبمبدأ الانفتاح الذي قامت عليه حركة البحث العالمية.
وأكد أن الاتحاد الأوروبي يتجه نحو نموذج جديد في سياسته التجارية يقوم على "الشراكات الشاملة" بدلاً من الاتفاقيات التجارية التقليدية، حيث تسعى المفوضية الأوروبية ومراكز الأبحاث والحكومات إلى تبني نهج أكثر تكاملًا يجمع بين التجارة والبحث العلمي والتنمية
المستدامة.
وأكد أن الحرب في أوكرانيا تمثل تهديدًا وجوديًا لأوروبا، إذ كشفت هشاشة الدفاع الأوروبي واعتماده المفرط على السلام الداخلي، مؤكدًا أن هذه الأزمة قد تدفع القارة لإعادة بناء منظومتها الأمنية والاقتصادية على أسس أكثر توازنًا واستقلالًا.
وقالت فاليري بيكارد رئيس قسم التجارة بغرفة التجارة الدولية، أن العام الجاري يُعد من أكثر الأعوام اضطرابًا في تاريخ التجارة الحديثة، في ظل تصاعد الحمائية التجارية وارتفاع الحواجز الجمركية وغير الجمركية على مستوى العالم، مشيرة إلى أن حالة عدم اليقين التي خلّفتها التوترات التجارية الأمريكية أصابت مجتمع الأعمال العالمي بـ"الشلل"، إذ باتت الشركات تواجه بيئة متغيرة باستمرار دون وضوح للرؤية المستقبلية.
وأضافت أن هذه التحديات لا تقتصر على الولايات المتحدة، بل تمتد إلى مختلف الاقتصادات، حيث أصبحت الشركات في كل مكان تواجه تشريعات جديدة معقدة مثل آلية تعديل حدود الكربون الأوروبية (CBAM)، ما وصفته بأنه "يشبه محاولة تغيير إطار سيارة أثناء سيرها"، مؤكدة أن الأعمال التجارية ستتكيف في النهاية، لكن السؤال يبقى: بأي كلفة، ومن سينجو؟
وأشارت فاليري أن دراسة مستقلة أعدّتها "أوكسفورد إيكونوميكس لصالح الغرفة، أظهرت أن غياب منظمة التجارة العالمية كان سيؤدي إلى تراجع صادرات السلع غير النفطية في الدول النامية بنسبة 33%، وخسارة دائمة في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 5%. وأشارت إلى أن مصر كانت ضمن عشر دول شملتها الدراسة، ولكن التأثير عليها سيكون أقل نسبيًا من غيرها ، لكنه ما زال كبيرا بانخفاض متوقع في الصادرات بنسبة 20% والناتج المحلي بنسبة 3%، بينما ستكون الاقتصادات الإفريقية الأكثر تضررًا بخسائر تتجاوز 40%.
وأكدت فاليري على أن النظام القائم ليس مثاليًا، لكنه يظل حيويًا، داعية إلى إطلاق جولة إصلاح جديدة لمنظمة التجارة العالمية خلال الاجتماع الوزاري المقبل في مارس المقبل لتحديث آلياتها وتعزيز استدامة التجارة الدولية، مؤكدة أن مجتمع الأعمال مستعد لدعم إصلاح منظمة التجارة العالمية وشددت على أهمية تجديد وقف بعض الإجراءات المؤقتة كجزء من عملية الإصلاح المرتقبة، بما يضمن استدامة النظام التجاري متعدد الأطراف في مواجهة تحديات العقد الجديد.










