رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

ليلة تتلألأ على الخشبة بعد انتظارٍ طويل، تحقق الحلم حين حصلت ابنتي على تذاكر لمسرحية "الملك لير"، ذلك العمل الذي يُعد من أهم الإنتاجات المسرحية في السنوات الأخيرة.
دخلنا المسرح القومي وسط أجواءٍ مفعمة بالحماسة والترقّب، ومع عزف السلام الجمهوري وقف الجميع احتراماً في لحظةٍ جسدت معنى الانتماء والهيبة قبل أن يُفتح الستار على واحدة من أروع ليالي المسرح المصري..
الديكور.. فخامة تستدعي الزمن الملكي، منذ المشهد الأول، أسرنا جمال الديكور الذي أعادنا إلى زمن الملوك والعروش.
اجتمعت البساطة مع الفخامة في لوحة بصرية مدهشة، حيث تنقلت المشاهد بانسيابية متقنة، وكل قطعة أثاث أو إضاءة كانت تخدم الحالة الدرامية بوعيٍ وذوق رفيع.
أما الأزياء والاكسسوارات، فجاءت على مستوى عالمي من الإتقان، إذ عبّرت كل تفصيلة عن الشخصية ومكانتها: من تيجان الملوك إلى عباءات الخدم، في مشهدٍ يُظهر عناية بالغة بالتفاصيل وحرصًا على الأصالة.
يحيى الفخراني حضور يليق بالمسرح والتاريخ، جاء ليتوّج العرض بحضوره المهيب وأدائه الإنساني العميق.
اعتلى خشبة المسرح بثقة القادر وبساطة الحكيم، فملأ المكان دفئاً وصدقاً، تجسد أمامنا الأب الذي يفرّط في ملكه حباً لبناته، ثم يكتشف قسوة القلوب حين تُختبر المشاعر بالمصالح.
قدّم الفخراني شخصية “لير” بذكاءٍ نادر، جمع فيه بين التراجيديا والإنسانية، بين الضعف والقوة، بين الحلم والانكسار. كان أداؤه درساً في التمثيل المسرحي الذي لا يعتمد على الافتعال، بل على الصدق والعمق والتجلي الإنساني.
الأداء الجماعي.. نسيج منسوج بالانضباط والجمال.
وبرع باقي طاقم الممثلين في تجسيد أدوارهم بوعيٍ جماعيٍ نادر.
كان التفاعل بينهم في غاية التوازن، وكأن كل ممثل خيطٌ متين في نسيجٍ واحدٍ متكامل.
جعل هذا الأداء الجماعي الجمهور يعيش القصة بكل جوارحه، ويندمج في مأساة إنسانية تتجاوز الزمان والمكان.
أما الموسيقى التصويرية فكانت جزءًا أصيلاً من النسيج الدرامي، استخدمت بحرفية لتصنع التوتر حيناً، والشجن حيناً آخر، دون أن تطغى على الحوار أو تُشوّش على الممثلين.
الإخراج في "الملك لير" كان بطلاً خفياً استطاع أن يمسك بخيوط المأساة دون أن يقع في فخ الميلودراما، فجاء الإيقاع محسوباً بدقة، والانتقالات بين المشاهد ناعمة لا تفقد المتلقي تركيزه.
كل تفصيلة في حركة الممثل أو زاوية الإضاءة كانت تؤكد أن وراء العمل رؤية واعية تُدرك معنى المسرح بوصفه فناً للروح قبل أن يكون عرضاً للعين.
المغزى الإنساني مرآة لا تزال تعكس وجوهنا.
لم تكن قصة "الملك لير" التي كتبها شكسبير قبل قرون مجرد مأساة ملكٍ خُدع في حب بناته، بل مرآة تعكس واقعًا يتكرر في حياتنا اليوم.
فالملك العجوز الذي قرر تقسيم مملكته بين بناته الثلاث غلّب العاطفة على الحكمة، ليجد نفسه مطروداً ومهاناً من ابنتيه الكبريين اللتين خدعتاه بكلمات المديح الزائف، بينما عاقب الصغرى الصادقة لأنها لم تعرف التملّق.
ورغم أن الحكاية تنتمي إلى زمنٍ بعيد، إلا أنها تُعيد نفسها في بيوتٍ كثيرة اليوم، حين يتحول الجفاء العاطفي من الأبناء إلى الآباء إلى مشهدٍ واقعي مؤلم.
مأساة "لير" لم تكن في ضياع الملك، بل في خيبة قلب أبٍ منح كل شيء، فلم يجد سوى القسوة والنكران.
وحين ينتصر الفن للضمير الإنساني
خرجنا من العرض ونحن نحمل شعوراً بالفخر والدهشة؛ فالمسرح المصري لا يزال قادراً على تقديم أعمالٍ تضاهي أرقى العروض العالمية، سواء في الإخراج أو الأداء أو التقنيات.
كانت تجربة “الملك لير” على خشبة المسرح القومي درساً في أن الفن الحقيقي لا يشيخ، وأن الخشبة ما زالت قادرة على أن تُدهش وتربّي الذوق والوجدان.
ولعل هذه المسرحية تذكّرنا بأن برّ الآباء لا يحتاج إلى عرشٍ أو ميراث، بل إلى قلبٍ وفيّ وضميرٍ حي.