من جريد النخل تولد الحرفة و صناعة الأقفاص والكراسي في برج رشيد تراث لا يصدأ

في قلب مدينة رشيد بمحافظة البحيرة، وبين أزقتها العتيقة التي تحمل عبق التاريخ، يجلس الحاج منصور عبد الخالق البراوي، صاحب الـ63 عاما، على مقعد خشبي بسيط، تحيط به خيوط من جريد النخل، وأدواته اليدوية التي رافقته منذ نعومة أظافره، وبين يديه تتشكل التحف الفنية من الأقفاص والكراسي المصنوعة من جريد النخل، في مشهد يجسد أصالة المهنة وعبق التراث المصري الأصيل.
يقول الحاج منصور البراوي ل“ الوفد” وهو من أقدم صنّاع الكراسي والأقفاص في قرية برج رشيد، إنه عشق هذه المهنة منذ الصغر، وورثها عن آبائه وأجداده، حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياته اليومية.
ويضيف البراوى بابتسامة يملؤها الفخر: "أنا بحب الشغل دا من قلبي، لأنه شغل نضيف وطبيعي، ومفيهوش كيماويات، كله من جريد النخل اللي ربنا خلقه."
ويشرح البراوي أن جريد النخل المستخدم في الصناعة له أنواع متعددة، أبرزها بنت عيشة، والسماني، والزغلول، موضحًا أن أجود الأنواع هما "بنت عيشة" و"السماني"، نظرًا لمتانتهما العالية وقدرتهما على التحمل، ما يجعلهما الأفضل في صناعة الكراسي والأقفاص التي تستخدم في المنازل والحدائق والمزارع.
إلا أن الحاج منصور عبر عن حزنه الشديد من تراجع الإقبال على المنتجات اليدوية المصنوعة من جريد النخل، بعدما غزت الأسواق الكراسي والأقفاص البلاستيكية، التي أصبحت الأرخص والأكثر طلبا رغم ضعف جودتها.
وقال البراوى : "الناس دلوقتي بقوا يشتروا البلاستيك، لكن زمان كان البيت المصري ما يخلاش من الكراسي والأقفاص الجريد."
ورغم هذا التراجع، لا يزال البراوي متمسكا بمهنته التي يعتبرها تراثا يجب الحفاظ عليه.
وأضاف البراوى: "أنا نفسي المهنة دي تفضل وتعيش على مر الأجيال، لأنها مهنة شريفة ومفيدة، وفيها روح الفن والطبيعة."
وأشار الحاج منصور إلى أن اثنين من أبنائه تعلموا هذه الحرفة منه، في محاولة لاستمرارها داخل العائلة، مؤكدا أنه يحرص على تعليمهم كل أسرار المهنة حتى لا تندثر مع مرور الزمن.
ولم تتوقف مسيرة الحاج منصور عند حدود قريته أو مدينته، بل وصلت شهرته إلى المحافل الرسمية، حيث شارك في عروض ميدانية بمدينة رشيد أثناء زيارة السفير الفرنسي والدكتورة جاكلين عازر محافظ البحيرة.
ويتذكر البراوي هذه الزيارة بفخر كبير قائلا: "السفير الفرنسي اتفرج على الشغل بتاعي، وكان منبهر بالكراسي اللي عملتها من جريد النخل، وخصوصًا الكرسي الشاذ لونج، لدرجة إنه جربه بنفسه وقال صوروني وأنا عليه"
وأوضح منصور أنه تحدث مع السفير الفرنسي عن أهمية المنتجات الطبيعية، مبينًا له أن جريد النخل مادة آمنة وصحية، تشبه الخشب في متانتها، لكنها لا تنقل الميكروبات وتساعد على راحة الجسد.
وأضاف مبتسما: "قلت له دا شغل من الطبيعة ومفيد للإنسان، والأجانب بيحبوا الشغل اليدوي لأنه تراث قديم، وفعلا فرنسا خدت شوية شغل، وبيقدروا الحرف دي جدًا."
وأكد البراوي أن دعم الدولة للحرف اليدوية أصبح ضرورة ملحّة، لأنها تمثل جزءًا من الهوية الوطنية المصرية، فضلاً عن كونها مصدر رزق لآلاف الأسر.
وقال: "المفروض الدولة تهتم بينا وتوفر معارض وورش تدريب، عشان الحرفة دي ما تموتش."
وفي ختام حديثه، وجه الحاج منصور رسالة مؤثرة إلى الشباب، دعاهم فيها إلى تعلم الحرف اليدوية بدلاً من الاعتماد الكامل على الوظائف المكتبية، قائلا: "الشغل اليدوي عمره ما يخيب، واللي يتعلمه يقدر يعيش بكرامة، أهم حاجة يحب اللي بيعمله."
هكذا يبقى الحاج منصور عبد الخالق البراوي مثالا حيا للصانع المصري الأصيل، الذي لم تغره مغريات العصر الحديث، وظل متمسكًا بحرفته التراثية، يصنع الجمال بيديه من جريد النخل، ويحيي مهنة تتنفس من روح الأرض المصرية.























