رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيسا التحرير
ياسر شورى - سامي الطراوي

كبسولة فلسفية

نستأنف رحلتنا، عزيزي القارئ، مع تلك المعضلة التي أرهقت العقل الإنساني قرونًا طويلة: معضلة الحرية والجبرية. سؤال يتجدد على الدوام: هل الإنسان مخيَّر حقًا أم هو مسيَّر تحت وطأة أسباب لا يملك منها فكاكًا؟
في هذا الجزء الثاني، نتابع الخيط حيث انتهينا، لنقف عند دور العلم الذي أخذ على عاتقه كشف أسرار الكون: من اللقاحات التي أنقذت البشرية، إلى الصواريخ التي اخترقت الفضاء، ومن الإنترنت الذي غيّر وجه الحياة، إلى ألغاز الجينات التي كشفت خبايا الموروث الإنساني. وكلما أضاف العلم إنجازًا جديدًا إلى رصيده، ترسَّخ في الوعي أن لكل شيء سببًا سابقًا، حتى قرارات الإنسان نفسها لم تعد تُستثنى من هذه القاعدة.
وهنا يظهر التناقض صارخًا بلا مواربة: إذا كانت أفعالنا محكومة بالأسباب، فأين إذًا موقع الحرية؟ تَخَيَّلْ أنك قاومتَ النعاس فواصلتَ القراءة بدل أن تُغلِقَ الكتاب. قد تشعر أنك اخترتَ بحرية، لكن وراء قرارك أسبابٌ خفيّة: حبّك للفلسفة، تربيتك على الانضباط، أو عنادٌ شخصيّ. كلّها أسباب، حتى لو لم تكنَ مدركًا لها. بل إن بعضها قد يكون في منطقة ما قبل الوعي، كما تشير دراسات علم النفس، أو في أغوار اللاوعي، كما قال فرويد. وأحيانًا تكون فيزيائية بحتة: انحيازات دقيقة في الدماغ تتحكم في ميلك لاتجاه دون آخر. هذه الأسباب لا تراها بالتأمل، لكنها موجودة وتعمل في الخفاء. وهكذا، فالجبرية لا تستثني الإنسان.
لكن دعنا نواجه المعضلة في مثال صارخ: اجتياح هتلر لبولندا عام 1939م. نحن نلومه ونفترض أنه تصرّف بحرية، لكن الجبرية تقول: لم يكن حرًا على الإطلاق. قراره ذاك لم يهبط من السماء، بل كان ثمرة أسباب سابقة: طفولته، تجاربه، قراءاته، محيطه السياسي والاجتماعي. ولو تعمّقنا أكثر، سنجد أن تلك الأسباب نفسها متشابكة مع أحداث أقدم تعود إلى ما قبل ميلاده بزمن طويل. بهذا المعنى، غزو بولندا لم يكن "قرارًا فرديًا" بحتًا، بل حلقة في سلسلة طويلة من الأسباب المتصلة، سلسلة بدأت قبل وجود هتلر نفسه.
والأمر لا يقتصر على هتلر. حتى ضحكتك حين ترى شيخًا يتعثر بدلًا من أن تسنده ليست "نزوة آنية"، بل نتيجة مزاجك، تربيتك، مواقف سابقة مررت بها. كل فعل بشري، كبيرًا كان أو صغيرًا، يحمل وراءه جذورًا ممتدة في الماضي. هكذا يبدو أن وهم الحرية ينهار. فإذا لم يكن هتلر حرًا، ولا أنا حرًا في الضحك، فكيف نبرر اللوم الأخلاقي أصلًا؟ على أي أساس نحاسب؟
تأتي الفيزياء لتزيد الصورة قتامة: كل فعل هو في النهاية حركة لجسيمات دون ذرية داخل المخ والجسد، تتحرك وفق قوانين يمكن – نظريًا – التنبؤ بها بدقة متناهية. تصوّر أن فيزيائيًا بارعًا، قبل مئة عام، استطاع أن يحسب مسارات هذه الجسيمات بدقة، ليصل إلى النتيجة الحتمية: أن هتلر سيغزو بولندا. سواء أُجريت هذه الحسابات أم لا، فالنتيجة واحدة: الغزو كان محسومًا قبل ميلاد صاحبه. نحن إذن أمام صدام مباشر: إيماننا بالعلم من جهة، وإيماننا بالحرية والمسؤولية الأخلاقية من جهة أخرى. قنبلة انفجرت بالفعل، ولا بد أن نواجه شظاياها.
لكن دعنا، صديقي القارئ، نتوقف قليلًا ونسأل أنفسنا بصدق: ماذا لو لم تكن حريتنا حقيقية كما نظن؟ ماذا لو كانت كل قراراتنا مكتوبة سلفًا بطريقة خفية، ونحن فقط نعيش وهم الاختيار؟
لو كان الأمر كذلك، فربما لا يبقى أمامنا إلا أن نرى العالم بعينٍ جديدة، عينٍ تؤمن بأن كل شيء يسير وفق نظام صارم لا يعرف الصدفة ولا الحرية. من هنا يظهر ما يسميه الفلاسفة "الجبر الصارم"؛ محاولة جريئة لتفسير الكون بعقل واحد لا يقبل الفوضى، حتى لو اضطر إلى أن ينزع عن الإنسان أغلى ما يملكه: إرادته الحرة. ولكن عند هذه النقطة، يطلّ سؤال لا مفر منه، سؤال يقف في قلب هذا الجدل الفلسفي كله: ما المقصود حقًا بـ«الجبر الصارم»؟
عزيزي القارئ، الجبر الصارم هو أبسط مخرج من هذا التناقض أن نضحّي بإحدى الفكرتين: إمّا الحرية، أو الجبرية. وإنكار الحرية لصالح الجبرية يُسمّى "الجبر الصارم". تخيّل فيلسوفًا متشدّدًا لا يقبل المساومة: إذا تعارضت الحرية مع العلم، فلتسقط الحرية. وقد يبدو خطابه هكذا:
"علينا أن نعتاد على فكرة أن لا أحد مسؤول حقًا عن أي شيء. الحرية والمسؤولية الأخلاقية كانت وهمًا من أوهام عصور ما قبل العلم. أما اليوم، وقد نضجنا، فلا بد أن نواجه الحقيقة: العلم أثبت زيف الحرية والأخلاق".
لكن هل يمكن أن نحيا وفق هذه الفلسفة القاسية؟ قد يجيب أنصارها: نعم، فالمجتمع سيواصل معاقبة المجرمين لا باعتبارهم مسؤولين، بل حمايةً للناس وردعًا للجريمة. ومع ذلك، من الصعب أن يتقبل الإنسان هذا الموقف. حتى من يزعمون الإيمان بـ"الجبر الصارم" ينكشفون عند الامتحان: جرّب أن تصفع أحدهم، ثم تبرّر له: "لم يكن عندي خيار… القوانين الطبيعية أجبرتني." من المستبعد أن يتقبّل عذرك!
وهكذا يبقى "الجبر الصارم" خيارًا لا يُطرح إلا حين تضيق الدوائر، وملاذًا أخيرًا يلوذ به العقل في مواجهة التناقض. لكن السؤال الأعمق لا يفارقنا: هل يمكن أن نعثر على سبيل يوفّق بين وهج الحرية ودقة العلم، بين مسؤولية الإنسان الصارمة وقوانين الطبيعة الصلبة؟ في النهاية، يظل الإنسان كائنًا معلقًا بين سطرٍ قُدِّر له أن يُكتب، وخطوةٍ يزعم أنها من صنيعه. وبين هذا وذاك، يظلّ السؤال مفتوحًا: هل نحن من نصنع مصائرنا، أم أن المصائر هي التي تصنعنا؟
[email protected]