كبسولة فلسفية
الإنسان: مخيَّر أم مسيَّر؟ ذلك هو السؤال الأزلي الذي أرهق العقول وأثار جدلًا لا ينقطع، سواء في ساحات الفلسفة أو في رحاب الدين. ولشدّة حضوره في وجدان الناس، أفرد له كثير من العلماء والوعّاظ حلقات متتابعة على القنوات الفضائية، محاولين أن يقدّموا للسائلين فهمًا سديدًا يبدّد الحيرة ويهدي إلى اليقين.
غير أنّ ما بدا محاولةً للحسم لم يزد القضية إلا التباسًا، فسرعان ما عاد التساؤل أشدّ إلحاحًا، بل انزلق عند بعض الشباب إلى دروب الشك والإلحاد، لا سيّما في أعمار مبكّرة. وهنا تبرز خطورة السؤال، إذ لا يقتصر أثره على التفكير النظري، بل يمتدّ ليعصف بالإيمان والمعنى والغاية من الحياة.
لذلك رأيت أن أتناول في هذا المقال معنى الحرية والجبرية، لأضع بين يديك – أيها القارئ العزيزي – ما يمكن أن يضيء الطريق ويكشف الغموض، بعيدًا عن التعقيد والالتباس. وكل ما أرجوه أن تفتح قلبك وعقلك لما ستقرؤه، علّ كلماتي تمسّ وجدانك، ويصلك منها ما ينفع ويجلو الحقيقة.
عزيزي القارئ، تخيّل أن تُختطَف وتُجبَر على ارتكاب سلسلة من الجرائم البشعة: يمسك الخاطف يدك ليضغط إصبعك على زناد المسدس فتسقط الضحية الأولى، ثم يُنوّمك مغناطيسيًا لتضع السم في طعام الثانية، ثم يرميك من طائرة لتسقط فوق الثالثة فتقضي عليها. وبمعجزة إلهية تنجو أنت من الموت، لتظن أن الكابوس قد انتهى. لكن فجأة، تطوّقك الشرطة بالأصفاد متهمةً إياك بالقتل، بينما ينهال ذوو الضحايا بالسباب واللعنات وأنت تُساق إلى مصير لم تختره.
فهل من العدل أن تتحمّل المسؤولية عن جرائم لم ترتكبها بإرادة حرة؟ بالتأكيد لا. فالمسؤولية الأخلاقية لا تُبنى إلا على الاختيار، وما دمت قد سُلِبت حريتك، فأنت بريء من اللوم.
ومع ذلك، يظلّ الإيمان بالحرية واحدًا من أعمق ما نتمسّك به كبشر. كيف يمكن أن نتخلى عنه؟ التنازل عن فكرة الحرية يعني أن نفقد القدرة على التخطيط للمستقبل، فما جدوى أن نخطّط إذا كان كل شيء محسومًا سلفًا؟ وهو يعني أيضًا التخلّي عن الأخلاق، إذ لا يُلام ولا يُعاقَب إلا من يملك حرية القرار. ومن دون حرية نصبح كآلات تُساق على سكك محدّدة، بلا قدرة على الانحراف عنها. وحياة كهذه لا تستحق أن تُعاش.
لكن هذا الإيمان يصطدم بحقيقة عنيدة تُشبه قنبلة مؤجّلة الانفجار: كل حدث له سبب. تلك هي "الجبرية".
فنحن نؤمن بالسببية بالفطرة. لو اكتشف العلماء في طبقات الجو العليا غيمة تشكّلت لتكتب اسم "أوزي أوزبورن (Ozzy Osbourne)" مغني بريطاني مشهور، فلن يرضوا بقبولها كحادثة عشوائية بلا تفسير. سيبحثون عن سبب: هل هو مقلب من مهندسي "ناسا"؟ أم مشروع علمي لطلاب؟ أم ربما أثر غامض لكائنات فضائية؟ الاحتمالات تتعدد، لكن فكرة "بلا سبب" لا تخطر على بال أحد.
والعلم لم يكتفِ بتأكيد هذا الميل الفطري، بل عمّقه بكل إنجاز فتح لنا أبواب الدهشة، وما زال يفتح. على أن نترك بقية الخيوط للأسبوع المقبل، إن قدّر الله لنا البقاء واللقاء، لنغوص أعمق في سرّ العلاقة بين الحرية والعلم.
[email protected]