قطوف
ذاتَ ثَرثرة متعوس!

من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.
"سمية عبدالمنعم"

هأنذا أجلس على تلك المنضدة وأشرِّع نافذتي على أشعة شمس بؤونة تتخلل لتنير دروبي؛ قيظ تنورٍ يتسربُ إلى حروفي الهاربة بين السطور، سئمت لُجة أفكاري المتلاطمة، سوداوية تجتاح كل من نعتهم قلمي ب(المنحوسين)، كل مرة أكتب قصتي الحزينة —لا أذكر أن الفرحة تناور الظلام الدامس في ديباجة مفرداتي أو تلك الأبجدية القاتمة؛ تارةً أخرى تتسربل من الحرمان أو اليتم أو الفقر المدقع كل أبطال قصتي؛ العجيب أن الوحيد الذي أرسم ملامحه يضحك ويبتسم ليتنسَّم عبير الحرية والانطلاقة على الحياة هو الكومبارس، أعتقد أن العتَه والبلاهة قد أصاباه فكبت مشاعره الخرساء ليطلق ثغراً ينفصم من البكاء أو الصراخ، كل الأبطال يتجسدون في أخيلتي المريضة ينتظرون الموت الزؤام في نهاية محتومة؛ ما عداه!
كان عصيَّا عليّ!... لم أستطع أن أطوعه في نسيجي الحزين لأضعه مرة بين نيران الوطيس أو حتى أزمان شهريار أو حتى خريف سرمدي بفراشات ورقات ذابلة، أو آخذه لزمن سنابك خيل تحارب جيوش (ساسان) د، أو ألوي ذراعيه في عرين يوثقُ به أثناء اختطافه، أو أزجّ به بأسوار الزنازين يتجرع ألوان العذاب بالسجن المشدد ينتظر الإعدام كما تعودتُ في معظم رواياتي، أو أجعله يعاني من أمراض الرهاب النفسي وكره النساء أو حتى يكره نفسه لينتحر في نهاية المطاف؛ لكنَّ شخصيتي التعسة هذه المرة أبت ذاك المآل، كانت تمتلك الجرأة ليتمخض من عرنوس الكآبة والمرارة ليتشبّث بالأمل، لم تنطلِ عليه حيلي التي أنجح فيها كل مرة.
كنت أهمهم بصوت لم يتعدّ حنجرتي وأنا أنبش دموع فرشاتي بين الصفحات التي أكتبها كمسوّدة في ورق داش لشخصيتي الجديدة ولكني —في قرارة نفسي أرفض الخيانة والتمرد.. الويل الويل لكل من تسول له نفسه من كل شاردة أو واردة!.
باغتتني صفعة من حيث لا أدري أو هُيئ لي بأن هناك صوتًا يزمجر في ركن ركينٍ من غرفتي: (لستُ أنا الثمن)، أتُراني أهذي في وحدتي أم أن شبحاً ما قد اخترق نجوم الثريا التي أبادلها أطراف الحوار فبعثتُه ليقضَّ نَومي، لكني مازلت أستمرُّ في العناد وأصمُّ آذاني بمنأى عن الضجيج الذي لا أدري مصدره، ربَّما تكون أصوات شخصياتي تآلبت للوداع أو تلمِّحُ بتأبين— ولكن عن أي ثَمن يقصدون أو من قال ذلك؟!
ارتعَدَ فراشي وأسرعت لأُجهز على مصدرِ صوت يتهدج؛ ليس عويلاً أو أنيناً بل — أنغام تلك الآلة التي رأيتها في الأوبرا بآخر زيارة (الثيرامين).. ياللعجب.. آلة بلا أوتار، أعتقدُ بأن بطل القصة المتمرد يراسلني عبر الأثير ليخبرني بأنه موسيقيّ الهوى ولا يريد أوتاري لتحركه وتفرض عليه نغماته بل يبغي التحرر، عنَّفته قائلا: "ماذا تريد أن تكون؟"، ليردَّ عليّ في غنج: " أنا رُوقَه العايق! استَمرَّ في توصيف سماته التي تتماهى مع عالم المزدهين في خُيلاء وكبرياء: " أدندن كطنين النحل وأعجب كل النساء.. أضع على هندامي الأنيق عطرا من أغلى ماركات (جيفونشي).. وعالمي من نوارس طليقة على نهر غير آسن تتلوى مياهه بميوعة فتاة.. تجلس على شاطئه وتتجرد من ملابسها فينبري جسدها البضّ ويتدلى شعرها الأسود الداكن ويفوح منها عطر ريحانة أو زنبقة سوداء أو ياسمينة مُخملية؛ أنا جاثمٌ على صخرة تختبئ خلف خيل تربدُ هناك.. وبجوار ملابسها الراقدة.. لألتقطها وأشير بِها إليها ملوحاً.. فأتقاذف سبابا وشتائم بشتى الألفاظ التي يندى لها الجبين حتى أرحل لأنها نالت من رجولتي.. اعتبِرها أيها الكاتب صبيّة إغرائي أو فيروزة عابرة.. الأهمُّ بالنسبة لي أن تراني وأراها في أي زمان ومكان أو في الزمَكَان كما أشار أينشتاين.. هل هناك ضرر من ذلك.. سأتفيأ بظلال سندانة في مكان مهجور لم تطأه قدم بشر أو جان.. يمكنك استخدام وسائط وتطبيقات التكنولوجيا الذكية في رسم عالمي الذي يلائمني.. و دعني أكمل الحكاية! "
هكذا—أدركتُ بأنني أمام شخصية ليست سهلة، تبحث عن السعادة وسط الأهوال التي توسدت عالمي ومحاور قصصي وأبعادها.. شخصية متمردة على أضغاث أحلامي وثرثرتي الهوجاء ورياحي الهبوب، حتى أنها تُعطي النساء قدراً عظيماً لا يستحققنه بعدما ذقتُ من كيدهن بدلا من كمشة حب لعِين.. أذكر أنني كنت أحبها تلك التي وهبتها من فرادس العاشقين مسرح كيوبيد لتغتاله سهام الغدر وتخبرني بأني لستُ بتلك الدرجة من الكفاءة كي أتقدم لخطبتها، كانت تتلذذ أشعار جواباتي ورسائلي الأرجوانية التي تتقاطر هياماً.. ويْحي! كنت أنعتها ( بدر الأيام) فأضحت (عرجون الأقلام) ؛ تبّاً لذاك المتمرد يفرض عليَّ شخصيته السليطة؛ يشبههنّ في كثير من السجايا.. كم أكره الحالمين الواهمين! أليس الحبُّ مترعةً للأوهام!.. سأحَاور (رُوقه) لَربّما أتّخذه حليفا ونصنع (غُولاً) أسطورياً للمتضادات.. يحب السكوت والثرثرة.. يهوى الأتراح والأفراح.. يعيش الواقع والوهم.. يتقن الخداع والصدق.. أو يفكر كأنثى تارة أو كرجل كرَّة أخرى.. أو كإنسان في مقابل المتأنسِن!.
“يا روقه... سأعقد معك صفقة سأجعلك تقوم بكل الأدوار.. وتعيش في كل حين.. وتنخرط في الدنيا أو ميتَاً بالآخرة أو حتى أجعلك ملاكاً أو درويشاً أو من المجاذيب.. اختر ما شئت شريطة أن تكون هناك ضحية من النساء التي تتوق إليهنّ.. يا بطل الأبطال!"؛ لكنّ الضربة المدوية هذه المرة كانت قاصمة من (رُوقه) : (يا هذا.. يا أنت.. أيها المأفون / لستُ مَسخاً مثلك/ تشكلني ببلورتك السحرية كيفما تشاء/ هذه مرآتك المُحطمة تشوِّه ما تبقى من أشلائك الآدمية/ماذا تظن نفسك فاعلاً/ هذي شخصيتي— ارضَ بها وكينونتِها وسيرورتها / أنت لا تستحق الحياة يا من تمقت الأقدار!)... كان ردِّي في الختام بعد ذاك الدفاع: "حقاً أصدقك القول يا من اغتلت هويتي الآثمة.. قد أعددتُ ذلك الماثل حول عنقي ونهايته مثبتة بسقف حجرة النسيان لأصبح رفاتاً يجوب أجواء حكاياتي المُهملة التي لن تلقَى رواجاً أبداً.. سألقاك بجوار (ڤِرجيل) في رحلته!"..
لكنْ—لماذا أنا أحكي الآن ما حدث.. حتى الموت يفرُّ مني!!