رادار
تحملت مصر ما لا يتحمله بلد فى العالم وصبرت طويلًا على سفالة وبلطجة مأجورة استهدفت سفارتها فى عدد من الدول وأى دولة أخرى كانت سترد مباشرة وبقسوة عبر المعاملة بالمثل، وربما ذهبت أبعد من ذلك.. لكن مصر بحكمتها وحرصها على صورتها كدولة مسئولة.. آثرت أن تسلك الطريق الدبلوماسى أولًا وأن ترفع صوتها بالاحتجاج الرسمى، لتثبت أنها أكبر من أن تنجر وراء سفلة الأوطان الذين يبيعون أنفسهم عند أبواب السفارات الأجنبية.
فى العلاقات الدولية - لا مكان للعواطف المنفلتة ولا للشعارات الفارغة.. هناك قاعدة واحدة تحكم العالم منذ أن وضعت اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية عام 1961 ألا وهى المعاملة بالمثل.. مبدأ بسيط لكنه عميق يقوم على أن ما تمنحه من احترام لسفارات الآخرين على أرضك يجب أن تتلقاه سفارتك فى الخارج فإذا اختل هذا التوازن فإن الكرامة الوطنية تصبح مهددة.
خلال الأيام القليلة الماضية تعرضت السفارات المصرية فى أكثر من عاصمة أوروبية وأمريكية لموجة اعتداءات لفظية وجسدية نفذها أفراد وجماعات يرفعون شعار المعارضة بينما حقيقتهم أنهم مجرد بلطجية مأجورين باعوا ضميرهم ووطنهم مقابل حفنة دولارات ودعم إعلامى مشبوه.. هؤلاء الذين يتشدقون بالوطنية.. لم يجدوا وسيلة للتعبير إلا بالسباب البذيء الذى لا يقبله شرع ولا قانون، أو بمحاولات إغلاق الأبواب وتعطيل العمل الدبلوماسى فى انتهاك سافر للقوانين الدولية.
فى هولندا وبالتحديد فى لاهاى قام أحد الرعاع بوضع قفل على باب السفارة المصرية، فى مشهد عبثى يحاول من خلاله الإيحاء بأن صوت المعارضة أقوى من مؤسسات الدولة.. لكنه فى الحقيقة لم يغلق بابًا دبلوماسيًا بل فتح صفحة جديدة من التقصير الهولندى فى حماية البعثات الأجنبية.. ولولا التحرك السريع من القاهرة وصرامة وزير الخارجية المصرى بدر عبد العاطى الذى أبدى انفعالاً واضحاً فى مكالمة مسربة لمرت تلك الحادثة مرور الكرام.. الأمر الذى أجبر هولندا على الاعتذار رسميًا وتعهدت بحماية السفارة.. لكن يبقى السؤال: لو كان الاعتداء على سفارة هولندية فى القاهرة.. هل كان الصمت هو الرد؟
أما فى العاصمة البريطانية لندن فقد تم التعدى على أبواب السفارة وسباب على الأرصفة المقابلة للسفارة.. وتكرر هذا المشهد بصور أخرى بعد أن قام بلطجية (أطلقوا على أنفسهم ناشطين) بوضع عصا بين أبواب السفارة لمنع فتحها وانطلقت الشتائم من أفواه المنتمين لجماعة الإخوان ومن يوالونهم.. شتائم تخدش الحياء العام وتتناقض مع أبسط قيم الأخلاق تم توجيهها إلى موظفى السفارة الذين يمثلون الدولة المصرية.. ليس هذا فقط بل جرى اعتقال أحد الشباب المصريين الذى تصادم مع هؤلاء البلطجية، لرفضه التعدى على جزء من هيبة الدولة المصرية بينما ترك الأمن البريطانى المعتدين يمرحون أمام مبنى السفارة دون تدخل.
إن بريطانيا التى لم تحتمل قبل أعوام مجرد كتابة شعارات بالطباشير على جدران سفارتها فى القاهرة، سمحت اليوم باعتداءات لفظية وتجاوزات سافرة على البعثة المصرية فى قلب لندن.. أين مبدأ الندية والاحترام؟
وفى نيويورك وبالتحديد أمام مقر البعثة المصرية الدائمة لدى الأمم المتحدة حاول محتجان الاقتراب من المبنى لتعطيل العمل به فتعامل أمن السفارة بحزم وقام بضبطهما وتسليمهما للشرطة الأمريكية.. وفى مشهد آخر يعكس استهتار بعض البلطجية (الذين يطلقون على أنفسهم نشطاء ومعارضين) والذين يظنون أن الوطنية تقاس بالصراخ على الأرصفة والسباب البذيء.. هؤلاء لم يدركوا أن ما يفعلونه ليس معارضة بل جريمة يعاقب عليها القانون الدولى.. هنا تبرز الفلسفة الأعمق المعاملة بالمثل ليست انتقامًا بل توازن.. فمصر التى تحمى كل سفارة أجنبية على أرضها وكأنها قطعة من سيادة تلك الدولة، يحق لها أن تطالب بالمعاملة ذاتها فى الخارج.. من يراجع تاريخ مصر فى أصعب اللحظات يدرك الحقيقة.. فعندما اقتحم متظاهرون السفارة الإسرائيلية عام 2011، تحركت الدولة سريعًا لحماية البعثة وإعادة الأمور لنصابها.. احتراماً للقانون الدولى رغم الغضب الشعبى.. فهل قوبل هذا الموقف النبيل بالمعاملة نفسها؟
إن الدول التى تسمح لسفارات مصر بأن تكون مسرحًا لبلطجية مأجورين إنما ترتكب خيانة للقانون الدولى ولأبسط قيم الاحترام المتبادل.. فإذا كان الصمت واللامبالاة هو موقفهم فلتدرك تلك العواصم أن مصر قادرة على أن تعيد الدرس بلغة يفهمونها ألا وهى المعاملة بالمثل.
الأخطر من المواقف الرسمية هو هؤلاء الذين يزعمون أنهم معارضون وطنيون بينما لا يملكون من الوطنية إلا لافتة باهتة.. فالوطنية ليست شتيمة على باب سفارة بلدك وليست محاولة إغلاق مقر يمثل دولتك أمام العالم.. الوطنية موقف شريف داخل الوطن.. نقد بناء من أجل الإصلاح لا تجارة رخيصة على أبواب سفارات أجنبية.. إن هؤلاء السفلة الذين يدعون الدفاع عن الحرية.. لا يعرفون أن ما يفعلونه لا يخدم إلا خصوم مصر.. يبيعون صورتها فى الخارج مقابل فتات دعم منظمات مشبوهة.. ليقدموا أنفسهم كأبطال مزيفين لكن التاريخ لا يرحم.. وسيبقى اسمهم مقرونًا بالخيانة والارتزاق بينما تبقى مصر دولة تحترم نفسها وتفرض احترامها.
كلمة أخيرة.. المعاملة بالمثل ليست خيارًا ترفيًا، بل ضرورة لحماية الكرامة وإذا كانت بعض الدول الغربية وأمريكا قد سمحت بالاعتداءات اللفظية والجسدية على موظفى سفاراتنا فعليهم أن يتوقعوا أن مصر لن تصمت طويلًا.. مصر ليست دولة تبحث عن خصومة لكنها لن تقبل أن تتحول بعثاتها إلى ساحة للإهانة.. إن الفرق بين دولة تصان كرامتها وجماعات تبيع أوطانها هو نفسه الفرق بين الوطنية الحقيقية والخيانة.. الأولى تبنى وتحمى وتحترم القوانين والثانية تبيع الوطن وتغلف خيانتها بشعارات فارغة.
وهنا يعود المبدأ الأبسط وهو.. كما تحمى سفارتك نحمى سفارتنا.. وكما تترك بعثاتنا تواجه البلطجية.. سنعاملك بالمثل.
وللحديث بقية.. إن شاء الله تعالى