أﺳﺮار ﻋﺎﻟﻢ »اﻟﺜﻘﻮب اﻟﺴﻮداء«

أجساد للبيع مقابل جرعة مخدرات.. واستغلال الأطفال فى التسول
300 جنيه سعر المبيت لليلة واحدة داخل الأوكار المحرمة
كل شيء يبدو عاديًا أعلى كوبرى أكتوبر بالدقى، سيارات تمر، وضجيج المدينة لا يتوقف، والمواطنون يذهبون إلى أعمالهم ويعيشون صخب الحياة، لكن ما لا تراه عيناك هو عالم آخر قائم أسفلهم... عالم خفى.. مظلم.. تحكمه قوانينه الخاصة، وتُدفع فيه «إتاوات» مقابل النوم، وتُسفك فيه كرامة الإنسان على يد بشر مثله تمامًا، فقط اختلفت نقطة السقوط.
«الثقب الأسود».. ذلك العالم الخفى الذى يضم حياة أخرى للمتسولين ومتعاطى المخدرات وراغبى ممارسة الحرام، أناس يستقطبون الأطفال ويجبرونهم على التسول بعد التعدى عليهم بالضرب المبرح، وهذا ما جاء خلال التحقيقات مع بعض العاطلين الذين تم القبض عليهم فى الحملة الأمنية الأخيرة، كان يُستغل كوكْر خفى لعصابة تعتمد على الأطفال فى أنشطة غير قانونية، على غرار ما قدمه فيلم «العفاريت» فى شخصية «الكتعة»، وأكد المتهمون أنهم لم يكتفوا باستغلال الأطفال فقط، بل كانوا يعتدون عليهم بالضرب ويعاملونهم بقسوة لإجبارهم على النزول يوميًا إلى الشارع.
جولة «الوفد» تكشف مفاجآت
«الوفد» أجرت جولة ميدانية كشفت بها أسرار «الثقب الأسود»، ورصدنا مشاهد حية، والبداية كانت من أسفل كوبرى أكتوبر، بالمهندسين، وكان على بعد خطوات من شارع البطل أحمد عبدالعزيز، اقتربنا من أحد العناصر كان منهمكًا فى الحلاقة وبجانبه بعض الشفرات الحادة.
ما إن اقتربنا منه حتى تحسس بيده آلته الحادة، وقال: «فيه إيه؟.. أنتوا مين؟»، اقتربنا منه أكثر وسألناه عن شارع نوال بالدقى لكى نفتح الطريق للحديث معه.. صمت قليلًا وظل يصف الطريقة للوصول، وخلال حديثه رصدنا «شنطة يد» مليئة بالملابس معه، وشنطة بلاستيك تحتوى على بعض علب الكانز، الشك يحاصره فنهض سريعًا بعيدًا عن أعيننا، ولكننا كنا نلاحظه من على بعد وظللنا نتتبع خطواته ووجدنا مكانًا آخر أشبه بالممر، جدرانه مطموسة بالهالات السوداء ما ينم عن اندلاع حريق لأكثر من مرة فى محيط المكان.

أيقظ الشاب غيره من زملائه فى المكان، حذرهم من أمر محتمل خطر ربما يحدث لهم، ما جعلهم ينهضون سريعًا بعيدًا، كانوا فى صورة أشبه بخلية نحل، كل منهم تحرك فى اتجاه لتكون فرصة سانحة لنا للكشف عن بؤر أخرى للاختباء.
«اجرى يلا منك ليه.. اجرى فيه لبش».. قالها الشاب لاثنين آخرين كانا يقطنان فى ممر أسفل كوبرى أكتوبر، اقتربنا منهم بحذر شديد.. وجدنا شابين فى العقد الثالث من عمرهما، عيونًا تكاد تكون غير واضحة بالمرة، أجساد منهكة تفوح منها روائح تشمئز منها الأنوف.
سمعنا صوت طفل يصرخ، وحاولنا معرفة مصدر الصوت وتتبعنا حتى وصلنا إلى رجل تجاوز من العمر الخمسين عامًا، كان ينهر طفلًا ليحضر له المياه، اقتربنا منه بحذر شديد، ورصدنا آلة حديدية فى يده كان يهدد بها الطفل، وظل يجمع أشياءه من بطاطين ممزقة وشنطة بلاستيك مليئة ببواقى الأطعمة، وعلب الكانز.
كان الأمر الصادم لنا بوجود فتاة ثلاثينية، ضمن أعضاء الثقب الأسود، تحمل فى يدها أيضًا سلاحًا أبيض، تترقب خطواتنا خلال رصدها
اقتربنا منها بعض الشيء وأشهرت السلاح الأبيض، وادعينا لها السؤال عن طريق نضله، وجدنا بجوارها بعض السرنجات الفارغة، وملابس تنم خامتها على مستوى مغاير تمامًا عما نراه، ما يؤكد بسرقتها لهم.
«خلى بالك يا أستاذ امشى من قدامها».. بصوت عال قالها أحد أصحاب الأكشاك فى محيطها محذرًا منها وقال إنها كثيرًا ما تعرض المارة للأذى بسببها، فمن لا يلاحظ قد يتعامل معها بحسن نية وتتطاول عليه بالسلاح الأبيض.
يقول صاحب الكشك، إنّه كثيرًا ما يرى تجمعات الشباب والفتيات من أصحاب الثقوب السوداء ليلًا يتقاسمون بعض المال والأدوية والمخدرات ثم يذهب كل منهم إلى مكان اختبائه، واستمررنا فى جولتنا الميدانية.
وجدنا شابًا يرتدى ملابس ممزقة، وجهًا ملطخًا بالأتربة، جسدًا تفوح منه روائح تشمئز منها الأنوف، اقتربنا منه بحجة تقديم المساعدة له، وبعد ثوان بدأ الحديث يكشف مفاجآت حينما قلنا له: «ما تيجى تريح تحت الكوبرى هنا فى الظل شوية»، يرد الشاب قائلًا: «لا مقدرش طبعًا؟».
نظرنا إلى المكان المشار إليه فلم نجد فيه أحدًا فلماذا رفض، كررنا السؤال: «ليه طيب مش عايز تستريح»، يرد قائلًا أنا ليا مكان معين لو روحت مكان تانى هدفع فلوس.
«فلوس؟!!!!.. تدفع فلوس علشان تقعد تحت الكوبرى تدفعه لمين؟».. بالحديث معه علمنا أن لكل منطقة اختباء أحدًا يحميها كـ«فتوة»، وتتراوح قيمة الدفع لليلة الواحدة 200 جنيه إلى 300 حنيه، فضلًا عن الممارسات اللا أخلاقية بين شباب الثقب الأسود والفتيات، فالفتاة التى لا تملك قيمة جرعة المخدرات تقدم جسدها قربانًا للحصول على ما تريد.
فى ركن بعيد أسفل الكوبرى، لاحظنا رجلًا فى الأربعين من عمره يهمهم بكلمات غير مفهومة، يلف جسده فى بطانية ممزقة، وأمامه كوب بلاستيكى مكسور فيه بقايا شاى بارد. حاولنا التحدث معه، لكنه اكتفى بقول جملة واحدة فقط قبل أن يُدير وجهه.

«أنا مش شحات.. أنا مكسور».. كانت هذه الجملة كفيلة بأن تُسكت كل ما فينا. لم يكن بحاجة لطعام ولا نقود. كان فقط يطلب ألا يُنظر إليه كأنه غير موجود.
على مقربة من محطة مترو البحوث، لاحظنا تجمعًا صغيرًا يضم أربعة أشخاص – شابين وفتاتين – يجلسون القرفصاء، يتقاسمون سيجارة ملفوفة يدويًا. كل منهم يرتدى ملابس غير متناسقة، يغلب عليها لون الأتربة، وإلى جوارهم كيس أسود فيه مجموعة من العلب المعدنية الفارغة.
اقتربنا أكثر فسمعناهم يتفاوضون. أحدهم يعرض ولاعة متهالكة مقابل نصف علبة دواء، وآخر يساوم على «تى شيرت» مقابل سيجارة.
تحت كوبرى أكتوبر، وجدنا شابًا فى آواخر العشرينات يجلس على قطعة كرتون، بين كتلة من البطاطين المهترئة وعلب الكانز الفارغة. لا ينظر لأحد. وجهه شاحب، وجفونه نصف مغلقة، يتحسس بإصبعه سيجارة ملفوفة يدويًا، يخبئها بيد ويراقب الشارع باليد الأخرى.

اقتربنا منه بهدوء، لم ينتبه فى البداية، أو تظاهر بعدم الانتباه، كان منشغلًا فى تسخين طرف ملعقة معدنية بولاعة قديمة، على الملعقة آثار مسحوق أبيض وقطرات ماء، بجانبه سرنجة يبدو أنها استُخدمت أكثر من مرة.
على بُعد خطوات من «سفارى بارك» الشهيرة، فى قلب إمبابة، وتحديدًا بميدان حسين مهران، تتوارى مشاهد صادمة خلف ضجيج المدينة، حيث يصعب على العابرين أن يدركوا ما يدور أسفل الكوبرى. من بعيد، تبدو الأمور عادية... حركة مرور، عربات تُهرول، وحياة يومية تمضى بلا توقف. لكن الواقع فى الأسفل مختلف تمامًا، عالم موازٍ لا تحكمه القوانين، بل تحكمه «الشرسة للبقاء».
أسفل الكوبرى، وسط أكوام من القمامة وروائح نفاذة لا تخطئها الأنوف، يجلس عشرات الشباب فى تجمعات متفرقة. وجوه شاحبة، عيون تائهة، أجساد هزيلة مُلطخة بالأتربة. لا يرحبون بالغرباء، وأى محاولة اقتراب منهم كفيلة بأن تنتهى بكارثة، وكأن من يدخل هذا المكان لا يخرج منه كما كان.
المشهد الأكثر إيلامًا يتمثل فى جلسات تعاطى المخدرات التى تُمارس علنًا، «الآيس»، «الشابو»، ومواد أخرى مجهولة تُستهلك بلا وعى، وسط تبادل لسرنجات مستعملة، وزجاجات بلاستيكية تحتوى على سوائل مشبوهة، تُستخدم فى تسخين المواد المخدرة وتزداد الصورة أكثر عند نزلة كفر طهرمس بعد نزلة صفط اللبن على الطريق الدائرى فلا يختلف الأمر كثيرًا مع المتعاطين، ويتحول الأمر لكابوس للمارة من الذين تتعطل سيارتهم ليلًا فى هذه المنطقة ويتعرضون لخطر السرقة بالإكراه.
قانون التشرد والتسول... هل يكفى لمواجهة جرائم «الثقب الأسود»؟

قال الخبير القانونى أيمن محفوظ، فى تصريح خاص لـ«الوفد»، إن ما يُعرف إعلاميًا بـ«الثقب الأسود» الواقع أسفل بعض الكبارى فى مناطق مثل الدقى والمهندسين، يُمثل بؤرًا للعشرات من الأفعال غير القانونية، ما يستوجب تدخلًا قانونيًا شاملًا، وتحقيقًا من قبل النيابة العامة.
وأوضح محفوظ أن قانون رقم 98 لسنة 1945 بشأن المتشردين والمشتبه فيهم، يُعرّف التشرد كحالة مادية تستوجب الوضع تحت مراقبة الشرطة، بينما يُعرّف الاشتباه بأنه صفة تُنسب لمن له سوابق جنائية أو اشتهر بسلوك إجرامى، إلا أن المحكمة الدستورية العليا قضت بعدم دستورية بعض مواد هذا القانون عام 1993، ما أدى إلى توقف تطبيقه بشكل فعلى، ما جعل التعامل مع هذه الحالات أكثر تعقيدًا.
وأضاف محفوظ أن التواجد فى تلك البؤر، إذا كان بهدف التسول، فيخضع لقانون رقم 49 لسنة 1933 بشأن مكافحة التسول، والذى يعاقب بالحبس لمدة 6 أشهر، وتصل العقوبة إلى سنة فى حالة التكرار، كما يُلزم بإيداع غير القادرين بدنيًا فى ملاجئ اجتماعية، ويُجرّم استغلال الأطفال أو الأحداث فى التسول.
وفى حال ثبوت تعاطى أو الاتجار بالمخدرات داخل تلك البؤر، فالقانون الواجب التطبيق هو قانون رقم 182 لسنة 1960 بشأن مكافحة المخدرات، وتصل العقوبات فيه إلى الإعدام فى قضايا الاتجار أو التهريب.
وأكد محفوظ، أنه إذا ثبتت ممارسة أعمال منافية للآداب داخل تلك الأماكن، فإن قانون رقم 10 لسنة 1961 الخاص بمكافحة جرائم الآداب هو المعنى، ويعاقب بالحبس حتى 5 سنوات، مع إمكانية الخضوع للرقابة الشرطية مدة مماثلة.
واختتم الخبير القانونى تصريحه بالتأكيد أن كل من يثبت تورطه فى أى من تلك الجرائم، سواء بالتسول أو التعاطى أو الاستغلال أو الآداب، سيُحال إلى النيابة العامة، التى ستُجرى تحقيقات موسعة تمهيدًا لمحاكمة كل متهم وفقًا للجريمة التى ارتكبها.

من جانبه قالت نهى الجندى الخبيرة القانونية، إنّ مشكلة المخدرات فى مصر تعتبر من أكبر التحديات اللى تقابل المجتمع المصرى، مشيدة بالحكومة التى تتخذ إجراءات صارمة لمكافحة تجارة المخدرات والقضاء عليها، والجهود التى تبذلها الأجهزة الأمنية لضبط مهربى المخدرات ومروجيها.
وتابعت: الثقوب السوداء.. أوكار لتجارة المخدرات والدعارة للأسف فى العديد من المناطق موجودة وخاصة المناطق الشعبية، لكن وزارة الداخلية تصدت لتلك الثقوب وتشن دائمًا حملاتها للحد منها، واذا تم ضبط أشخاص فى هذه الثقوب يحال للجنايات بتهم الاتجار والعقوبة تصل إلى مؤبد.