رادار
فى لحظة من التاريخ المتوتر، حيث تتكاثف الضغوط النفسية وتتعاظم الكلفة الوجودية للحياة، تأتى قرارات تبدو فى ظاهرها تنظيمية، لكنها تضرب فى الصميم فلسفة الدولة الاجتماعية وأخلاقها.. القرار الوزارى رقم 220 الصادر عن وزارة الصحة.. أحد هذه القرارات ـ إذ يقضى بتحويل 60٪ من أسرة المستشفيات النفسية إلى الخدمة بالأجر، ورفع تكلفة العلاج النفسى بنسبة تجاوزت 50٪ـ الأمر الذى لا يمكن قراءته إلا بوصفه انسحابا تدريجيًّا من الالتزام الأخلاقى تجاه أكثر الفئات هشاشة.. حين يتحول الألم الإنسانى إلى سلعة ، فالمريض النفسى لا يطلب امتيازا ولا ترفاً بل يسعى إلى الحد الأدنى من الرعاية الذى يمكنه من العودة إلى ذاته، أو على الأقل التخفيف من وطأة ما يعانيه.. الفصام والاكتئاب والوسواس القهرى واضطرابات الهلع والإدمان.. كلها ليست قضايا طبقية، بل أزمات وجودية قد تصيب أى إنسان فى أى لحظة.
إن تحويل المستشفيات النفسية إلى كيانات ربحية، يعنى ببساطة أن الحكومة قررت أن تضع معاناة هؤلاء فى ميزان السوق - لا فى ميزان الرحمة.. فى ظل تصاعد الأمراض النفسية، لا يزال النظام الصحى المصرى يعانى فجوة واضحة فى قدرته على استيعاب هذا الكم المتزايد من الحالات.. فحتى هذه اللحظة لا يتجاوز عدد المنشآت المرخصة لعلاج الأمراض النفسية والإدمان فى مصر 200 منشأة فقط من بينها ما بين 18 إلى 20 منشأة حكومية رسمية تقع تحت إشراف المجلس القومى للصحة النفسية أو الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان.. وعلى مستوى السعة السريرية، فإن الإجمالى التقريبى لجميع هذه المنشآت يتراوح بين 6,000 و8,000 سرير فقط ـ رقم شديد الضآلة إذا ما قورن بعدد السكان ومعدلات الإصابة بالاضطرابات النفسية المتصاعدة.
أما فيما يخص علاج الإدمان تحديدا فإن عدد الأسرة المخصصة لهذا الغرض فى المنشآت الحكومية لا يتجاوز 1,700 سريرا بينما يحوز القطاع الخاص 4,500 سرير تقريبًا، ما يعنى أن كلفة التعافى من الإدمان باتت محكومة بقوانين السوق، وبعيدة عن متناول الغالبية غير القادرة على سداد فواتير العلاج المرتفعة.. هذا الواقع الكمى لا يكتمل إلا بذكر ما هو أخطر ـ القرارات الأخيرة بتحويل جزء كبير من هذه المنشآت إلى العمل بالأجر، لتكون أكثر من نصف الأسرة فى خدمة من يملك فقط، لا من يحتاج وبينما تغلق بعض المستشفيات أبوابها أو تقلص خدماتها، يتم رفع أسعار الخدمة فى أخرى.. وهو ما يعنى فى المحصلة أن النظام يضيق الخناق على من هم فى أمس الحاجة للنجدةـ فى لحظات العجز الأكبر.. الدواء ليس ترفاً والعلاج ليس سلعة.. المريض العقلى لا يستطيع الانتظار فى طابور الأولويات الاقتصادية.. كل لحظة من الألم النفسى هى حياة تنكسر من الداخل ـ الشخص الذى يسعى جاهداً للإقلاع عن الإدمان، يحتاج إلى يد تمسك به لا يد تفتش جيبه.. إن رفع تكلفة العلاج، أو ربط الحصول عليه بالمقدرة المالية، ليس فقط انتهاكاً لحق الإنسان فى الصحة، بل هو حكم بالإقصاء على من لا يملك الثمن.
كيف لنا أن نطالب المدمن بالإقلاع ثم نطالبه بثمن علاجه؟.. كيف نواجه اضطرابات الاكتئاب المتفشية ونحن نرفع ثمن الجلسة العلاجية فوق قدرة المواطن المتوسط؟.. كيف نواجه وصمة المرض النفسى ونحن نحاصر المصابين به بالمزيد من العقبات والإذلال.
وجوه من الواقع أمثلة حية على الإهمال النفسى.. خذ مثلًا حالة الشاب (م ـ ر) من محافظة المنوفية ـ شاب فى منتصف العشرينيات يعانى نوبات ذهانية حادة.. لم يكن لوالده العامل البسيط القدرة على تغطية تكلفة جلسات الطب النفسى، فظل الشاب محبوسا فى غرفة صغيرة داخل منزله لسنوات، حتى تسبب ذات يوم فى إيذاء أخته الصغرى وهو فى نوبة هلوسة.. وفى الإسكندرية تم العثور على امرأة خمسينية تتجول فى الطرقات بملابس ممزقة بعد أن تم طردها من مركز خاص للعلاج النفسى لعجز أسرتها عن سداد الرسوم ـ لم تسعفها الكرامة ولم تتدخل الدولة.. وفى القاهرة ـ شاب جامعى مدمن سابق دخل فى مرحلة التعافى وكان ملتزماً بجلسات الإرشاد النفسى الجماعى فى أحد المراكز الحكومية.. لكن بعد تحويل الجلسات إلى نظام مدفوع الأجر، اضطر للتوقف ـ ثم عاد للإدمان وفى أقل من عام كان ضمن قائمة المتوفين بجرعة زائدة.. هذه ليست حالات فردية كما يدعى بعض مسئولى الوزارة.. هذه صور من مجتمع قرر أن يغلق بابه أمام أضعف من فيه.. المجتمع حين يتخلى عن مرضاه النفسيي لا يكتفى بتركهم لمصيرهم، بل يصنع سلسلة من الآثار المجتمعية الوخيمة.. تفكك أسر ـ تصاعد فى نسب الجريمة ـ زيادة فى التشرد ـ اتساع دوائر الإدمان.. وظهور حالات متزايدة من الانتحار أو العنف الذاتى والغيرى.
فى مدينة صغيرة بالصعيد ـ طعن شاب والدته بسكين المطبخ وهو تحت تأثير ضلالات عقلية لم تعالج.. وفى حى راقٍ بالجيزة.. ألقى شاب بنفسه من شرفة الطابق السادس بعد أن تم حرمانه من الدواء الذى كان يمنح له مجانا.. الحق فى الصحة النفسية ليس شعارا بل التزام حضارى، المريض النفسى لا يعامل كمريض عادى فحسب، بل هو إنسان فى ذروة ضعفه الوجودى.. والحق فى الرعاية النفسية ليس بندا على هامش الحقوق.. بل حق جوهرى تكفله الدساتير الحديثة ومواثيق حقوق الإنسان ـ وقد أقر الدستور المصرى ذاته فى مادته (١٨) هذا الحق بوضوح، مؤكدا التزام الدولة بتوفير الرعاية الصحية المتكاملة.
إن المجتمعات المتحضرة لا تقاس فقط بمدى رعايتها للإنسان حين يكون ضعيفا حائرا مريضا عاجزا.
إلى أين نمضى؟.. القرار 220 ليس مجرد إجراء إدارى، إنه انعكاس لرؤية مختلة لدور الحكومة تجاه الفرد وانعكاس لاقتصاد لا يعترف بالألم، ولا يكترث للضعف ولا يعير اهتماما للمعاناة التى لا تقاس بالأرقام.. هو قرار يحمل فى داخله بذور التفكك المجتمعى والإدانة الأخلاقية والتراجع الحضارى.
وفى زمن نحتاج فيه إلى إعادة الاعتبار للإنسان لا ينبغى أن يكون المريض النفسى وحده فى معركته.. لأن المجتمعات التى تترك مرضاها فى العراء، لا تستحق الأمن ولا الاستقرار ولا حتى الاحترام.
وللحديث بقية.. إن شاء الله تعالى