في شرق أوسط محفوف بالصراعات الدائمة والتحالفات المتغيرة، رسّخت مصر مكانتها الاستراتيجية كلاعب حاسم، بل لا أبالغ.. أن تيارات الصراع التي تجتاح الشرق الأوسط شكلت اختبارًا لقدرة الدولة المصرية على الصمود، وفرض هذا الواقع مُوازنة دقيقة بين الدبلوماسية الحازمة، والإجراءات الأمنية المشددة التي تحافظ علي الأمن القومي المصري.
و في ظل الحرب المدمرة من غزة إلى الحدود المضطربة مع السودان وليبيا، وجدت مصر نفسها في قلب الاضطرابات الإقليمية، مما فرض عليها استجابة متعددة الأوجه تُبرز نفوذها الدائم في منطقة هشة...
يرتكز جوهر استراتيجية مصر الإقليمية على إيمان راسخ بسيادة الدولة ومؤسساتها. ويُشكّل هذا المبدأ أساس نهجها في التعامل مع الصراعات العديدة التي اجتاحت جيرانها.
( في ليبيا)، الدولة التي تشترك مع مصر في حدود طويلة ومتشعبة، لعبت القاهرة دورًا محوريًا.. ففي البداية، دعمت مصر الجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر، وكان هدفها الرئيسي منع تحول البلاد إلى ملاذ آمن للجماعات المتطرفة.
وبينما كان هذا الدعم عسكريًا وسياسيًا في البداية، تحولت القاهرة بشكل متزايد نحو دور الوساطة، حيث استضافت العديد من المحادثات بين الفصائل الليبية المتناحرة، وكان الهدف هو التوسط في تسوية سياسية تضمن دولة ليبية موحدة ومستقرة، قادرة على تأمين حدودها ومكافحة الإرهاب، وبالتالي التخفيف بشكل مباشر من حدة التهديدات الموجهة إلى الجناح الغربي لمصر، وبينما لا يزال التوصل إلى حل نهائي للأزمة الليبية صعب المنال، كان للانخراط الدبلوماسي المستمر لمصر دور فعال في تعزيز الحوار ومنع المزيد من الانزلاق إلى الفوضى.
وبالمثل، شكلت الحرب الأهلية الدائرة في (السودان) تحديًا مباشرًا لحدود مصر الجنوبية ومصالحها الحيوية في نهر النيل، وقد حافظت القاهرة على توازن دقيق، حيث دعمت رسميًا القوات المسلحة السودانية، ودعت في الوقت نفسه إلى حوار سياسي شامل وجامع.. استضافت مصر قوى سياسية ومدنية سودانية لإجراء محادثات، ودعت باستمرار إلى وحدة السودان، خوفًا من أن يؤدي تفكك الدولة إلى زيادة عدم الاستقرار وتعقيد قضية سد النهضة الإثيوبي الكبير (GERD) المثيرة للجدل أصلًا.
لعل أبرز أدوار الوساطة المصرية وأقدمها يتمثل في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مستغلةً مكانتها الفريدة كأول دولة عربية توقع معاهدة سلام مع إسرائيل، وعلاقاتها التاريخية والسياسية العميقة مع الفلسطينيين، تدخلت القاهرة مرارًا وتكرارًا للتوسط في وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة.
هذه الجهود ليست مجرد جهود إيثارية؛ بل مدفوعة بقلق عميق من أن يمتد الصراع المطول على حدودها الشمالية الشرقية إلى شبه جزيرة سيناء، وكان لأجهزة المخابرات المصرية دور محوري في هذه المفاوضات، حيث عملت خلف الكواليس لتهدئة التوترات وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر.
هذا الدور.. منع بلا شك العديد من الصراعات من التحول إلى حروب إقليمية شاملة.
في سياقٍ أبعد، اعتمدت مصر نهجًا أكثر حذرًا وواقعية… ففي (سوريا)، وبعد فترةٍ أوليةٍ من العلاقات المتوترة عقب اندلاع الحرب الأهلية، غيّرت القاهرة سياستها تدريجيًا إلى سياسةٍ تُركّز على وحدة أراضي الدولة السورية والحل السياسي للصراع، ويتجذر هذا الموقف في معارضتها الشاملة لصعود الجهات الفاعلة غير الحكومية وتفكك الدول القائمة.
وبالمثل، شهدت علاقة مصر مع إيران، التي اتسمت تاريخيًا بالريبة والتنافس، بوادر تقاربٍ حذر، مدفوعةً بالضرورات الاقتصادية والرغبة في لعب دورٍ إقليميٍّ أكثر استقلالية، انخرطت القاهرة في حوارٍ مع طهران، لا سيما بشأن قضايا الأمن البحري في البحر الأحمر وتهدئة التوترات الإقليمية.
ومع ذلك، فإن قدرة مصر على بسط نفوذها والتوسط في النزاعات ليست خاليةً من القيود، والتحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها.. يتطلب هذا أحيانًا موازنة دقيقة بين مصالحها الاستراتيجية ومصالح الأشقاء والأصدقاء من الداعمين.. علاوة على ذلك، تُشكل السياسة الخارجية المصرية نسيجًا معقدًا منسوجًا من دورها القيادي التاريخي في العالم العربي، وشراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وعلاقاتها المتنامية مع قوى عالمية أخرى مثل روسيا والصين.
باختصار.. تُعد جهود الدولة المصرية للحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط دليلاً
علي قيادتها السياسية والدبلوماسية الواعية .. فمن خلال الوساطة النشطة في ليبيا والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ونهج حذر ومستقر تجاه الأزمات في السودان وسوريا، وانخراط دقيق مع قوى إقليمية مثل إيران، تسعى مصر جاهدةً لتكون ركيزة أساسية للأمن الإقليمي.
وفي حين تواجه تحديات داخلية وخارجية جسيمة، فإن التزام مصر الراسخ بالحفاظ على الدولة القومية والحل السلمي للنزاعات يُؤكد دورها الذي لا غنى عنه، وإن كان معقدًا في كثير من الأحيان، في منطقة دائمة التقلب من العالم.
وستكون الأيام المقبلة اختبارًا جديدا ً حاسمًا لقدرة مصر على تجاوز هذه العواصف والحفاظ على الاستقرار في منطقة محفوفة بالصراعات.