ميلاد جديد من ضيق الدنيا إلى سعة الرحمن
«الهجرة».. نهج حياة لا ذكرى عابرة

الهجرة النبوية لم تكن مجرد انتقال من مكة إلى المدينة، بل كانت عبورًا من ضيق الذات إلى سعة الله، ومن الخوف إلى الطمأنينة، ومن الفوضى إلى التخطيط، ومع كل بداية عام هجرى، لا يكفى أن نُهنئ أو نتبادل الدعوات، بل نحن مدعوون لهجرة شخصية، فيها توبة وتجدد، وتصالح مع النفس، ومع بداية عام هجرى جديد، يعود السؤال الملح: هل تمر الأعوام فى حياتنا دون تغيير؟ هل صارت الهجرة النبوية مجرد مناسبة نحتفل بها، أم ميلاد جديد يحمل فى طياته رسالة روحية تدعونا للتجدد الداخلى؟
انتقال من ضيق الذات إلى سعة الرحمن
فى سياق تعليقه على معانى الهجرة النبوية، قال الدكتور عمرو الوردانى، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إن الهجرة لم تكن مجرد انتقال جغرافى من مكة إلى المدينة، بل كانت تحولًا روحيًا عميقًا، قائلاً:«فى الحقيقة، الهجرة لم تكن بمعنى الانتقال من مكان إلى مكان، ولكن الانتقال من ضيق ذواتنا إلى سعة الرحمن، أن ندخل فى معية الله سبحانه وتعالى».
وأوضح الوردانى أن مركز مفهوم الهجرة تجلى فى موقف النبى حين قال لأبى بكر الصديق داخل الغار: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، مشيرًا إلى أن هذا الموقف يُعلّم الإنسان المسلم الثقة الكاملة فى رعاية الله وسط الأزمات.
وأشار أمين الفتوى إلى أن مشاهد الهجرة النبوية تحمل دروسًا تربوية عظيمة، منها: اختيار الرفيق الصادق: كما اختار النبى صلى الله عليه وسلم أبا بكر، لتعليمنا حسن اختيار من نرافقهم فى مسيرتنا، وردّ الحقوق وتخفيف الأعباء: فى موقف سيدنا عليّ رضى الله عنه، حين تولّى ردّ الودائع، درسٌ فى الأمانة.
دعوة للتخطيط والتجدد لا للاستسلام
وعلى هذه الدروس القيمة أكد الشيخ عبدالله سلامة، عضو مركز الأزهر العالمى للفتوى، حيث قال أنه من العظات المستفادة من الهجرة النبوية هى أهمية اختيار الصحبة الصالحة، مستشهدًا بقول النبى صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل»، معتبرًا أن الصديق الصالح هو سند فى طريق الهداية، وأن الهجرة لا تعنى فقط الانتقال من مكان إلى آخر، بل هى انتقال من موطن المعصية إلى طاعة الله، مشيرًا إلى حديث النبى صلى الله عليه وسلم: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، مؤكدًا أن الهجرة سلوك يومى يبدأ بهجر الذنوب.
كما أوضح سلامة أن الهجرة النبوية تقدم للمسلم نموذجًا عمليًا فى التعامل مع الأزمات، قائلًا: «لو كان الإنسان صاحب مشروع أو شركة وواجه انتكاسة فى البداية، فذلك لا يعنى نهاية الطريق، بل عليه أن يأخذ بالأسباب، ويضع خطة واضحة، تمامًا كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم فى الهجرة».
وشدد سلامة على أن الثقة بالله أساس مهم فى تخطى الأزمات، مضيفًا: «إذا حدثت أزمة داخل الأسرة، يجب ألا نراها نهاية المطاف، بل بداية محتملة للفرج».
واختتم سلامة تصريحه بالإشارة إلى أن الإخاء بين المهاجرين والأنصار يمثّل صورة مشرقة من صور التراحم فى المجتمع الإسلامى، وأن بداية العام الهجرى فرصة لترك الذنوب، وفتح صفحة جديدة مع الله ومع النفس ومع الناس.
دور المرأة
ومن جانبه قال الشيخ عويضة عثمان، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إن الدور الذى قامت به السيدة أسماء بنت أبى بكر فى الهجرة النبوية الشريفة، يكشف بوضوح أن الإسلام لم يُقصِ المرأة عن المشهد، بل أثبت حضورها الفاعل فى أعظم لحظات التاريخ الإسلامى.
وأوضح الشيخ «عويضة» أن النبى صلى الله عليه وسلم أراد أن يُرسخ درسًا للأمة بأهمية دور المرأة، مشيرًا إلى أن كتب السيرة النبوية وثّقت الدور البطولى لأسماء بنت أبى بكر، والذى يعكس قوة الشخصية النسائية فى نصرة الحق.
وأضاف أمين الفتوى أن المرأة لم تُستثنَ حتى من الأذى فى سبيل الدين، مؤكدًا أن السيدة زينب بنت النبى صلى الله عليه وسلم، لاقت أذى بالغًا فى هجرتها، فى مشهد يرسّخ أن التضحيات من أجل الإيمان لم تكن حكرًا على الرجال.
نموذجٌ متكامل فى إدارة الأزمات
فيما قال الدكتور محمد إبراهيم العشماوى، أستاذ الحديث الشريف وعلومه بجامعة الأزهر، إن قصة الهجرة النبوية تمثل درسًا تطبيقيًّا فريدًا فى إدارة الأزمات والتخطيط الاستراتيجى، وتكشف عن معالم دقيقة يُحتذى بها فى عالم الإدارة الحديثة.
وأوضح «العشماوى» أن النبى صلى الله عليه وسلم تعامل مع الأزمة التى واجهت الدعوة فى مكة بوعيٍ عميق، وبحثٍ مدروس عن حل، فجاءت الهجرة إلى المدينة بوحيٍ إلهى كخطة بديلة مدروسة، تمت فيها دراسة طبيعة المكان، وتحقيق التحالفات المسبقة، وتوزيع الأدوار بدقة شديدة بين أفراد موثوق بهم.
وأشار إلى أن التخطيط شمل اختيار شخصيات بعينها، مثل أبى بكر الصديق، وابنته أسماء، وعبدالله بن أبى بكر، وابن عمه على بن أبى طالب، ومولاه عامر بن فهيرة، موضحًا أن كل فرد كان يؤدى دورًا محسوبًا بدقة ضمن شبكة متكاملة لإتمام المهمة.
وأكد «العشماوىس أن الاستعانة بدليل مشرك – عبدالله بن أريقط – تعكس مرونة القيادة النبوية واعتمادها على الكفاءة والخبرة بعيدًا عن الانتماء العقائدى، وهو ما يدل على رسوخ مبدأ «وضع الرجل المناسب فى المكان المناسب» فى الفكر الإسلامى.
وختم حديثه بالتأكيد على أن نجاح خطة الهجرة يعود إلى أمرين متكاملين: الإخلاص لله، ودقة التخطيط، «فكانت الهجرة حبلاً بين السماء والأرض، طرفه فى يد الله، وطرفه فى يد النبى ورجاله الصادقين».
ومع إشراقة عام هجرى جديد، يتجدد المعنى العميق للهجرة لا كرحلة من مكان إلى آخر، بل كرحلة قلبية نحو الله، ننتقل فيها من أوحال الذنوب إلى سعة الرحمة، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن التيه إلى الاستقامة.
ويؤكد علماء الدين أن بداية السنة الهجرية لا ينبغى أن تُختزل فى مشاعر عابرة أو تهنئة شكلية، بل تُحيا بوضع خطة صادقة للتوبة والعمل، فالهجرة كانت درسًا فى الإيمان العميق، لكنها أيضًا كانت نموذجًا للتخطيط المحكم.
وفى الختام، كما أعد النبى صلى الله عليه وسلم خطته قبل الانطلاق، يجب على المسلم أن يبدأ عامه بخطة روحية وسلوكية: أهداف واضحة فى العبادة، والخلق، والمعاملة، والسعى لترك ما نهى الله عنه، والتوبة بداية الطريق، لكنها تحتاج إلى نية صادقة، واستمرار، وبذل، وعزم على ألا نعود لما تركناه، وأن نحيا السنة كلها بروح الهجرة: صبر، تغيير، توكل، وعمل. فكل عام هجرى جديد هو فرصة لتصحيح المسار، وبدء الهجرة الكبرى من النفس إلى الله.
