رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس التحرير
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شورى

مئات المرض يطالبون بالحق ف حياة عادلة

مستعمرة الجذام فى عالم النسيان

بوابة الوفد الإلكترونية

أطراف مشوهة وأعضاء مبتورة.. وآلام العزلة الجبرية

 

فى ركن بعيد عن ضجيج حياة المدينة.. تقبع مستعمرة الجذام فى أطراف محافظة القليوبية، حيث يجتمع مئات المرضى مع عائلاتهم، من معمّرة لربّ أسرة، لأطفال يحملون المرض فى صورة أطراف مشوّهة وأعضاء مبتورة داخل عزبة الشهيد عبدالمنعم رياض، راضين بوصمة مجتمعية فُرضت عليهم دون ذنب اقترفوه، بعلة تُدعى مرض الجذام.

والجذام، بحسب منظمة الصحة العالمية والمعروف أيضًا باسم داء هانسن، هو مرض مُعدٍ مزمن تسببه بكتيريا Mycobacterium leprae، يُصيب الجلد والأعصاب الطرفية وقد يؤدى إلى تشوهات جسدية وفقدان الإحساس فى المناطق المصابة.

تنتقل العدوى عبر الاتصال المطوّل مع المصابين غير المعالجين، ويُشخّص سريريًا، ويُعالج باستخدام علاج متعدد الأدوية (MDT) يشمل الريفامبيسين والدابسون والكلوفازيمين، ويوفره البرنامج مجانًا.

 

منسيّو الجذام: لا نزال هنا

وفى جولة لـ«الوفد» داخل مستعمرة الجذام، والتى تتألف من مستشفى الجذام يجاورها عزبة الشهيد عبدالمنعم رياض والمعروفة بمستعمرة الجذام، كان لنا حوار مع عدد من المرضى خارج أسوار المستشفى، الذين تقدموا بعدد من الاستغاثات كالآتي:

 

 

عادل جمعة: نعيش منسيين فى المستعمرة.. ولا نعرف لنا أهلًا ولا مأوى غيرها

منذ عام 1981، يقيم عادل جمعة داخل مستعمرة الجذام، بعدما أنهكه المرض وقاده إلى المستشفى لتلقى العلاج. يتحدث عادل بنبرة يعلوها الألم:

«رغم أن تشخيص حالتى أكد أنى ما زلت فى مرحلة قابلة للعدوى، كتبوا لى الخروج من المستشفى، وأرسلونى للعيش فى المستعمرة».

داخل هذا المجتمع المنسى، تزوج عادل من مريضة جذام مثل حالته، وأنجب طفلًا يحمل ذات المرض، ويعيش معهم داخل أسوار المستعمرة منذ ذلك الحين. يحكى بحرقة:

«لا أستطيع العودة للمجتمع، الناس ينفرون من علّتى، لا نظرة قبول ولا حتى شفقة».

معاناته لم تتوقف عند حدود المرض والعزلة، بل امتدت لتصل إلى إهمال طبى خطير. يروي:

«أُصبت بمرض القدم السكرى إلى جانب الجذام، واحتجت لإجراء عملية عاجلة، لكن مستشفى الأوعية الدموية بالمهندسين رفض استقبالى رغم صدور قرار علاجى على نفقة الدولة. قالوا لى بالحرف: لا نستطيع التعامل مع حالتك».

واليوم، يواجه خطر البتر فى ظل صمت مريب.

وفى استغاثة يائسة، توجه عادل بنداء إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي:

«أهل المستعمرة مرعوبون من فكرة طردنا منها يومًا ما. أين نذهب؟ هذا المكان الوحيد الذى احتوانا، نحن لا نعرف أهلًا ولا نملك حياة خارج أسواره. نرجوكم، دعونا نعيش فى سلام».

فيما يقول ياسر: أنا مريض بالجذام منذ ٣٥ عامًا، وأعانى من وصمة الجذام خارج أسوار المستشفى، ولا أستطيع الخروج خارج المستعمرة بسبب خوف المواطنين من علّتى، الأمر الذى يجعلنى داخل المستعمرة ولا أخرج منها إلا للضرورة القصوى، وأكد ياسر أنه يتم تهديده يوميًا بالخروج خارج المستشفى والمستعمرة.

ويضيف ياسر أن مستشفى الجذام يأتى إليه مرضى من آن لآخر، ولكن المستشفى لا يقبلهم لأسباب غير معلومة لهم، منهم ٤ حالات لأخوات جاءوا من محافظة سيناء، تم بتر عضو لإحداهن، وعادت الحالات مرة أخرى.

 

نصف قرن

يروى الحاج ى.م، أحد المقيمين بمستعمرة مرضى الجذام، أنه وفد إلى المستعمرة عام 1970، حيث عاش نصف قرن بين أهلها، يعتمدون فى حياتهم على تبرعات تصل من حين لآخر، يعيشون بها ما تيسّر من أيام.

يقول بصوت متعب وعينين غائرتين: عندما أخرج من المستعمرة، أضطر إلى إخفاء يدى حتى لا يلاحقنى الناس بالنظرات أو يبتعدوا عنى برفضٍ موجع».

«ويضيف بأسى، متذكرًا واقعة قاسية: «جارتنا، وتُدعى حياة، توفيت أمام أعيننا بعد أن رفض الأطباء فى مستشفى الخانكة استقبالها أو حتى التعامل مع حالتها. كنت شاهدًا على ذلك، وما زال المشهد عالقًا فى قلبى».

 

نتكاتف معًا فى المحن

ويحكى ناصر عبدالعال، مريض جذام يعيش بصمت داخل المستعمرة منذ 40 عامًا. فمنذ عام 1986، يقيم ناصر عبدالعال داخل مستعمرة مرضى الجذام، بعدما قادته علّته إلى أبوابها وهو شاب فى مقتبل العمر. فى رحابها، وجد مأوى لحياته المعزولة، وتزوج من مريضة تقيم فى قسم «الحريم»، ليكونا معًا أسرة صغيرة مكونة من ثلاث بنات وولد.

ناصر، الذى أنهك الجذام جسده، لا يستطيع العمل، ولا يملك من الدنيا سوى معاش بسيط بالكاد يكفيه قوت يومه. يقول بنبرة منكسرة:

«علّتى منعتنى من كسب الرزق.. وكل ما أرجوه من المسئولين أن يتركونا نعيش هنا بسلام، بصمت وألم داخل المستعمرة، فلا نطلب شيئًا سوى أن لا تُنتزع منّا هذه المساحة الصغيرة من الأمان».

بين جدران المستعمرة، يختبئ ناصر من مجتمع ما زال يرفضه، فيما يواصل الحياة على الهامش، كأن الزمن توقف عند لحظة دخوله إليها قبل أربعة عقود، ولا يأمل من الدنيا شيئًا سوى العيش بسلام.

 

ابن الجذام.. لكنه معافى

رغم أنه وُلد لأب وأم مصابين بالجذام، خرج عصام. م إلى الدنيا معافى، يحمل جسدًا سليمًا، لكن قلبه مثقل بوصمة لا ذنب له فيها. نشأ داخل المستعمرة، وتزوج فيها، وأنجب، وبنى أسرته كاملة بين جدرانها.

يمتلك عصام تجارة بسيطة، ويكرّس جزءًا من وقته لمساعدة المرضى فى قضاء حوائجهم، لكن معاناته لا تقل عنهم. يقول:

«أنا مش مريض... لكن مقدرش أقول برا إنى ابن حد كان عنده الجذام. الناس ما بترحمش».

كل حياته هنا، داخل المستعمرة، حيث وجد الأمان، وحيث يبقى الاسم والدم والوصمة... تهمة لا تسقط بالتقادم.

 

«إن خرجتُ... سأموت»

فى أحد أركان مستعمرة مرضى الجذام، يجلس إبراهيم عبدالحميد، شيخ تجاوز السبعين، بعينين تشعّان صبرًا ووجهٍ غلبته التجاعيد قبل أوانها.

وفد إلى المستشفى فى أوائل السبعينيات، بعد أن داهمه مرض الجذام منذ ستينيات القرن الماضى، فترك أثره على يديه، وشوّه ملامح أطرافه حتى انتهى الحال ببتر ساقه اليمنى.

تزوج إبراهيم من سيدة كانت تقاسمه المرض والمأوى، لكن برحمة الله، رزقا بطفلين أصحاء، فى مفارقة تحمل بارقة أمل وسط محنة طويلة، إلا أن معاناة إبراهيم لم تتوقف عند حدود المرض، فقد شُخّص لاحقًا بمرض فى القلب، ورغم حاجته الماسة إلى تدخل جراحى، إلا أن أطباء كثرًا ترددوا أو رفضوا التدخل الطبى بسبب إصابته بالجذام.

يقول إبراهيم بصوت متهدج: «لا أستطيع العمل… وإن خرجت من المستعمرة سأموت. هذا المكان بات عالمى الوحيد».

سنوات من العزلة والخذلان لم تفقده كرامته، لكنه لا يخفى وجعه من الإقصاء، والتمييز، والنسيان. حالة إبراهيم ليست فردية، بل تمثل صورة أوسع لمعاناة من ظُلموا بمرتين: مرة بمرضهم، ومرة بإقصاء المجتمع لهم.

 

«دعونى أموت بسلام»

على أطراف مستعمرة الجذام، يجلس الحاج عطية محمد، شيخ جاوز الثمانين، يغلفه الصمت وتغمره التجاعيد التى حفرتها خمسون عامًا من المرض والعزلة. بعينين منهكتين، لا يكاد يرفع نظره، وكأنه يختزن فى داخله ما لا تُقال به الكلمات.

يعيش عطية فى المستعمرة منذ نصف قرن، لم ينجب، وزوجته تعانى مثله من الجذام. لا أهل، لا أبناء، لا زوار. يعانى من فشل كلوى حاد، يضطره للذهاب إلى مستشفى الخانكة ثلاث مرات فى الأسبوع لإجراء جلسات غسيل كلوى. لكن الممرضات هناك يخفن منه، رغم أن المرض غير مُعدٍ، فاضطرت المستعمرة إلى إرسال ممرضة ترافقه من الداخل، لتتكفل برعايته.

بيته؟ غرفتان متداعيتان، يكاد الأثاث فيهما لا يُذكر، لا شيء سوى السكون والفقر والرضا، ورغم ذلك، لا يشكو. لا يطلب الكثير. كل ما يرجوه – فى خريف عمره – هو أن يُترك يعيش آخر أيامه بسلام.

ويختتم الحاج عطية بدموع خائفة «أنا مش طالب غير إنى أموت هنا… وسط المكان اللى اتعودت عليه. أنا خلاص مليش فى الدنيا حاجة».

 

ستون عامًا من العزلة

منذ ستين عامًا، دخلت الحاجة صباح مستعمرة الجذام، ولم تخرج منها يومًا. قعيدة الجسد، منهكة من السكر والضغط، لا تعرف لها أهلًا فى الخارج، ولا يتبقى لها من العالم سوى باب منزلها الذى تجلس أمامه يوميًا، كنافذتها الوحيدة على الحياة.

تقول بصوت واهن: «أنا عايشة هنا من زمان... معنديش حد بره، وأهلى الحقيقيين هما المرضى اللى حواليّ».

لا تطلب كثيرًا، سوى رحمة وعدل فى أيامها الأخيرة، فتوجه نداءً حارًا إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي: «إحنا ناس ضعاف، وانت دايمًا مع الغلابة... بص لنا بعين الرحمة».

هل ترغبين بإضافة نداء الحاجة صباح فى ختام التحقيق كرسالة مؤثرة تُجمع فيها أصوات المستعمرة؟

 

مقبرة الجذام

فى قلب المستعمرة، تقبع مقبرة صغيرة لا تشبه غيرها، تُعرف بين سكانها بـ«مقبرة الجذام»، يحرس هذه المقبرة الحاج رشيدى، رجل فى العقد السادس من عمره، وأحد مرضى الجذام القدامى منذ أربعين عامًا. ليس مجرد غفير، بل هو من يقوم بمهمة الوداع الأخيرة بمعاونة أهالى المستعمرة، حيث يرفض كثير من الأهالى استلام جثامين ذويهم المصابين بالجذام، فيُدفنون داخل أسوار المستعمرة بصمت، دون جنازات ولا عزاء.

يقول الحاج رشيدي: «أنا بدفنهم بإيدى... حتى الموت مش بيرحمهم من الخوف والنبذ».

يجمع رشيدى قوته من العمل البسيط، يروى الزرع على المقابر، ويقوم بأعمال دفن المرضى، بينما تُجمع «شهريته» من تبرعات الأهالى الباقين، بجانب المعاش البسيط الذى يتقاضاه.