كلاب إسرائيل تنهش أطفال فلسطين

صفقات تجارية عادية على الورق، وشهادات بيطرية صامتة فى مكاتب الجمارك الأوروبية، تتحول على أرض فلسطين إلى لحم ممزق، وطفولة مشوهة، وأمهات يدفن أبناءهن تحت عواء كلاب جلبت من قارة أخرى لتقاتل حربًا لا تفهمها.
فى مشهد لا يستغرق سوى ثوان، بدأ كابوس عائلة "حشاش" فى مخيم بلاطة للاجئين بالضفة الغربية. كانت أمانى حشاش قد اصطحبت أطفالها الأربعة إلى غرفة النوم، تحاول حمايتهم من مداهمات الجيش الإسرائيلى التى اجتاحت الحى صباح أحد أيام فبراير 2023. عندما سمعت صوت الجنود يقتحمون منزلها، صرخت قائلة: إنهم فى الداخل ولا يشكلون أى خطر. لكن الصوت الوحيد الذى رد عليها كان نباحًا عنيفًا، تبعه اقتحام باب الغرفة واندفاع كلب عسكرى ضخم، غير مكمم، نحو جسد طفلها الصغير.
انقض الكلب مباشرة على إبراهيم، ابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات، بينما كان نائمًا فى حجرها، وغرز أنيابه فى جسده. تحكى أمانى أن الحيوان بدأ يهز الطفل بعنف، ثم بدأ بسحبه خارج الغرفة، وهى تضربه وتصرخ وتحاول إنقاذ ابنها: «لكنه كان كلبًا ضخمًا. ظل يعضه ويسحبه بعنف. توسلت للجنود كى يوقفوا الهجوم، لكنهم لم يقدروا على السيطرة عليه».
عندما تمكن الجنود أخيرًا من إبعاده، كان إبراهيم فاقدًا للوعى، غارقًا فى دمه. حقنوه بمهدئ واستدعوا الإسعاف، لينقل إلى غرفة العمليات على وجه السرعة. يقول والده إن الجروح كانت بالغة، إذ بلغ طول أحدها 6.5 سنتيمتر، والآخر 4 سنتيمترات، ولم يبقَ فى ظهره مكان دون أثر للأسنان.
لكن وفقًا لتحقيق مشترك أجرته صحيفة الجارديان فإن الكلاب العسكرية المتورطة فى هذه الهجمات، غالبًا ما يتم استيرادها من دول أوروبية، وتحديدًا من بلجيكا وألمانيا وهولندا. وتشير التقديرات إلى أن 99% من الكلاب المستخدمة فى وحدة «عوكيتز»، الوحدة الخاصة فى جيش الاحتلال الإسرائيلى المعنية باستخدام الكلاب فى العمليات، تشترى سنويًا من شركات تدريب أوروبية. هذا ما أكده قادة الوحدة للخبير الأمريكى فى الحروب الحضرية جون سبنسر، خلال مرافقته للقوات الإسرائيلية، وهو رقم لم يتم نفيه
هذه الكلاب، وعلى رأسها كلاب المالينوى البلجيكية، تستخدم فى الأصل لرعى الأغنام، لكنها باتت أداة مفضلة لدى «عوكيتز»، وتستخدم على نطاق واسع فى الضفة الغربية وغزة، وتثير رعبًا حقيقيًا فى صفوف المدنيين الفلسطينيين.
وثقت منظمة «مرصد حقوق الإنسان فى البحر الأبيض المتوسط» 146 حالة استخدام لكلاب هجومية ضد المدنيين منذ ٧ أكتوبر. أحد أبرز الأمثلة هو محمد بهار، شاب من غزة يعانى من متلازمة داون والتوحد، تعرض لهجوم كلب عسكرى فى منزله بحى الشجاعية فى يوليو 2024، ثم أُجبرت عائلته على مغادرة المنزل، وتركوه ينزف حتى الموت. فى يونيو 2024، أظهر مقطع فيديو كلبًا عسكريًا يهاجم امرأة تبلغ من العمر 68 عامًا، دولت الطنانى، فى منزلها بمخيم جباليا.
وصف خبراء فى سلوك الحيوان تدريب الكلاب على مهاجمة المدنيين بأنه «انتهاك أخلاقى مروع». كما يقول الدكتور جوناثان بالكومب، «كائنات اجتماعية لا تختار القتال، لكنها تحول إلى أدوات عدوانية فى حروب لا تفهمها، ولا تخصها».
فى الضفة الغربية، وثقت منظمة الحق 18 حالة اعتداء من قبل كلاب عسكرية على مدنيين، كثير منهم أطفال. وتؤكد الأمم المتحدة أن استخدام هذه الكلاب ضد السجناء الفلسطينيين يشكل انتهاكًا مباشرًا للقانون الدولى لحقوق الإنسان، خصوصًا فى ظل شهادات تؤكد أن الكلاب كانت تستخدم لعضّ السجناء والتبول عليهم، كما نقلت منظمة «أطباء من أجل حقوق الإنسان».
طالبت منظمة العفو الدولية بإدراج الكلاب العسكرية ضمن القوانين التى تنظم استخدام الأسلحة التقليدية، معتبرةً أن تصدير هذه الكلاب إلى إسرائيل دون رقابة يرقى إلى تسهيل الانتهاكات. قال باتريك ويلكين، خبير التسليح فى المنظمة: «من الواضح أن هذه الصادرات تعزز ممارسات تنتهك القانون الدولى. يجب على الدول والشركات أن تدرس بجدية علاقتها بتلك الانتهاكات».
المقرر الأممى السابق ريتشارد فالك ذهب أبعد من ذلك، قائلاً: إن الشركات الأوروبية التى تصدر الكلاب إلى إسرائيل «متواطئة بشكل مباشر». وأضاف: «لا شك لدى أن هذه الشركات تعرف تمامًا كيف يستخدم ما تبيعه. من منظور القانون الدولى، هذا تواطؤ واضح».
الوثائق التى حصل عليها مركز «سومو» الهولندى تكشف أن هيئة السلامة الهولندية أصدرت 110 شهادة بيطرية لتصدير الكلاب إلى إسرائيل بين أكتوبر 2023 وفبراير 2025، 100 منها لصالح شركة «فور ويندز كيه 9»، وهى مركز تدريب للكلاب العسكرية والشرطية فى قرية جيفن.
شركة ألمانية أخرى، Diensthunde.eu، أكدت بدورها أنها صدرت كلابًا من نوع مالينوى وراعى ألمانى إلى إسرائيل بين 2020 و2024، لكنها نفت استخدامها فى الهجوم، قائلة إن الكلاب مخصصة للكشف عن المتفجرات والمخدرات فقط. غير أن الجارديان تشكك فى هذه المزاعم، نظرًا لتوثيق عشرات الهجمات التى لا علاقة لها بالكشف الأمنى.
أما الحكومة البريطانية، فاعترفت بتصدير 294 كلبًا إلى إسرائيل بين فبراير 2022 وديسمبر 2024، لكن دون تتبع لسلالاتها أو الغرض من استخدامها. وتظهر تصريحات رسمية من بلجيكا وجمهورية التشيك الموقف ذاته، إذ لا تملك هذه الدول سجلات واضحة حول استخدام الكلاب المصدرة، ولا تصنفها كأسلحة أو أدوات ذات استخدام مزدوج.
المفوضية الأوروبية نفسها لا تحتفظ بأى بيانات عن صادرات الكلاب إلى إسرائيل، بسبب ثغرات قانونية تمنع إدراجها ضمن قوائم الرقابة الاستراتيجية.
ورغم دفاع جيش الاحتلال عن «قانونية استخدام الكلاب فى العمليات»، فإن الأدلة المصورة، والشهادات الطبية، وشهادات الناجين، تؤكد استخدامًا موسعًا للكلاب كأداة للعقاب الجماعى، وترويع المجتمعات الفلسطينية.