رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

 


منذ أن تصدّر إيلون ماسك عناوين الصحف العالمية بثروته الطائلة ومشاريعه الثورية، بدا للكثيرين أن هذا الرجل يستطيع شراء أي شيء: من الشركات المُتعثرة إلى الأقمار الصناعية وحتى المنصات الرقمية التي يتواصل من خلالها البشر. لكن ما لا يستطيع حتى أغنى رجل في العالم شراؤه  أو على الأقل ليس بالكامل، هو لعبة السياسة.

السياسة، كما يقول التاريخ، ليست لعبة من يلقي المال على الطاولة فقط. بل إنها فن التأثير، وبناء التحالفات، وإدارة التوازنات الدقيقة بين المصالح المتناقضة. ورغم أن ماسك يتمتع بنفوذ إعلامي هائل، إلَّا أن هذا لم يضمن له القبول السياسي المُطلق، خصوصًا حين تتقاطع مصالحه مع الحكومات والجهات السيادية. قد يكون ماسك لاعبًا مهمًا في ملفات مثل الذكاء الاصطناعي، صناعة السيارات، الطاقة المتجددة، واستكشاف الفضاء، لكن كلما اقترب من الخطوط الحمراء للسياسات الداخلية أو الخارجية للدول، اكتشف أن هناك جدرانًا شاهقة لا تهدمها الثروة وحدها.

إذ مثّل استحواذه على منصة "تويتر" لحظة فارقة في علاقة ماسك بالسياسة. حيث روّج ماسك للمنصة على أنها فضاء حُر لا تحكمه رقابة إلَّا بحدود القانون، لكن سرعان ما وجد نفسه وسط اتهامات بالتساهل مع خطاب الكراهية، وفتح المجال لتأثيرات أجنبية على الرأي العام، خاصة في فترات انتخابية حرجة.
 


لقد أظهر دخول ماسك هذا المُعترك الشائك أن الإعلام، ولو كان مملوكًا له، يبقى ساحة مواجهة مفتوحة مع السياسيين، ولا يمكنه تجاهل التوازنات الدقيقة التي تحكم هذا العالم.

وصف ماسك نفسه أحيانًا بأنه "ليبرالي اجتماعي" وأحيانًا أخرى بأنه "مدافع عن حرية التعبير بأي ثمن"، وفي أحيان ثالثة، غازل أطياف "اليمين المحافظ". هذه المواقف المتذبذبة، بدلًا أن تمنحه مكانة سياسية راسخة، جعلته أقرب إلى شخصية جدلية يتفق معها البعض أيديولوجيًا ويصطدم بها البعض الآخر بشدة. فالسياسة لا تتسامح مع التقلب ولا تتماشي مع المزاجية، لأنها تعتمد على المواقف المستقرة والتحالفات طويلة الأمد. وبينما يمكن أن تُستثمر الأموال في الحملات الدعائية، تبقى الثقة السياسية عملة نادرة لا تُشترى بالمليارات.

حتى عندما لامست مشاريع ماسك مفاصل الأمن القومي مثل خدمة "ستارلينك" التي وُظِّفت عسكريًا في أوكرانيا، لم يكن حُرًا تمامًا في قراراته. حيث خضع لضغوط سياسية، وتحقيقات، ومطالب من البنتاغون. وهنا تتجلى حقيقة أن هناك حدودًا للنفوذ الفردي، مهما تضخمت الأموال وعلت الطموحات وازدادت المشروعات. إذ أن الدولة العميقة، بتعقيداتها الأمنية والبيروقراطية، لا ترى في ماسك إلا طرفًا قابلًا للاستخدام عند الحاجة، ومصدر قلق عند التمرد.

بدا ذلك واضحًا لمَّا أعلن ماسك رسميًا عن مغادرته لمنصبه في البيت الأبيض، حيث شغل دورًا قياديًا في "وزارة كفاءة الحكومة" في إدارة الرئيس دونالد ترامب. خلال فترة توليه، سعى ماسك إلى تقليص الإنفاق الحكومي بشكل كبير، بهدف توفير تريليوني دولار. إلَّا أن النتائج كانت أقل من المتوقع، حيث تم توفير ١٧٥ مليار دولار فقط، مما أثار انتقادات واسعة من قبل بعض السياسيين وأعضاء الكونجرس، وشريحة كبيرة من الجمهور. إذ أدت سياساته إلى إلغاء آلاف الوظائف الاتحادية والحكومية، وخفض مليارات الدولارات من المساعدات الخارجية وغيرها من البرامج وتقليص خدمات مهمة مثل "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية". جاءت استقالته نتيجة لتراكم الخلافات السياسية والإدارية، بالإضافة إلى ضغوط إعلامية وشخصية، مما جعله يقرر العودة إلى التركيز على شركاته الخاصة مثل "تسلا" و"سبيس إكس".

تُعد مغادرة ماسك من البيت الأبيض نهاية لفصل مثير للجدل في السياسة الأمريكية، حيث حاول نقل فلسفة القطاع الخاص إلى الإدارة الحكومية، إلَّا أن التحديات السياسية والعقبات البيروقراطية حالت دون تحقيق الأهداف المُعلنة بالكامل. إن تجربة ماسك القصيرة في البيت الأبيض التي استمرت ١٣٠ يومًا، كشفت التحديات التي تواجه رجال الأعمال عند دخولهم عالم السياسة، خاصة عندما تتعارض أهدافهم مع الديناميكيات والآليات السياسية القائمة.

قد يستطيع إيلون ماسك أن يُرْسِلُ البشر إلى المريخ، لكنه لن يستطيع فرض أجندته السياسية على الأرض دون معارك طويلة، معقدة. بينما يفتح المال الأبواب، تتطلب السياسة مفاتيح أخرى: كالحكمة، والاتزان، والتوقيت، وربما قليلًا من التواضع. إن لعبة السياسة، ببساطة، لا تُشترى بالمال، بل تُكتسب بالصبر والدهاء، والحِنْكَة والتحالفات القوية، والقدرة على قراءة خرائط النفوذ التي لا تُرسم دائمًا بالدولار.