أﻃﻔﺎل اﻟﺘﻮﺣﺪ.. ﻣﻼﺋﻜﺔ ﺧﺎرج اﻟﺤﻴﺎة

مراكز تبيع وهم الشفاء.. والرعاية الحكومية غائبة
جلسات العلاج بدون فائدة.. والأمومة بآلاف الجنيهات
الأمهات: تعبنا ماديًا ونفسيًا.. ونطلب الدعم الكامل
وراء كل باب مغلق، تسكن حكاية لا تُروى، وصوت لا يُسمع، ووجع لا تشعر به إلا الأسر المكلومة، من خلال هذه الحكايات نتعرف على معاناة أسر أطفال اضطراب طيف التوحد، والذى يعد أحد أكثر التحديات النفسية والمجتمعية ليس فقط لما يحمله من اضطراب فى التواصل والسلوك، بل لما يفرضه من تغيير جذرى فى تفاصيل الحياة اليومية للأسرة بأكملها.
التوحد ليس مرضًا عارضًا، بل هو اضطراب نمائى عصبى يظهر فى السنوات الأولى من عمر الطفل، وقد يستمر تأثيره مدى الحياة. وفى ظل إجماع المختصين على أن التدخل المبكر والمتخصص هو حجر الأساس فى تحسن الحالة، تصطدم الأسر خاصة من ذوى الدخل المحدود بواقع علاجى قاس، حيث تتحول الجلسات التأهيلية والعلاجات السلوكية إلى عبء مادى لا يطاق.
وفى الوقت الذى يُنظر فيه إلى هذه الخدمات كضرورة لا كماليات، تفتقر منظومة الدعم إلى التغطية الشاملة والعدالة الاجتماعية. فالمراكز المتخصصة، وإن وُجدت، تفتقر فى كثير من الأحيان إلى الرقابة، والأسعار غالبًا ما تكون خارج قدرة الأسر، بينما الدعم الحكومى، رغم الجهود المعلنة، لا يزال دون حجم الاحتياج الفعلى.
فى شهادات حصرية لـ«الوفد» تحكى أم يوسف عن بداية معاناة طفلتها، التى وُلدت فى خضم أزمة كورونا، ما أدى لتأجيل فحص السمع الأوَّلى. ومع مرور عام والنصف دون استجابة واضحة من الطفلة، بدأت الشكوك. وبعد فحوصات متأخرة، تبين أنها تعانى من ضعف سمع ثنائى. «ركّبنا السماعات على نفقتنا، وبدأنا جلسات، لكن المفاجأة أن الأعراض لم تتوقف، بل ظهرت علامات أكثر تعقيدًا: انعدام تواصل بصرى، تجاهل للنداءات، وسلوك نمطي».
تقول الأم إن سلسلة من الأخصائيين شخصوا الحالة بسمات توحد، لتبدأ رحلة التنقل بين المراكز. «واجهنا استغلالًا فجًا، مراكز تبيع الأدوية المستوردة بـ10 آلاف جنيه، وجلسات بتكلفة 3000 آلاف جنيه دون أى متابعة أو نتائج تُذكر»، مؤكدة أن بعض الأطباء لم يخصصوا أكثر من دقائق معدودة للفحص، واكتفوا بوصف أدوية قوية دون تدرج أو تقييم.
من جانبها، تسرد أم أحمد تفاصيل عشر سنوات من التحديات مع ابنها المصاب بتوحد شديد مصحوب بنوبات صرع. «خضعنا لكل أنواع الفحوصات، بدءًا من تخطيط المخ وحتى الحميات الغذائية، ودفعنا آلاف الجنيهات فى مراكز مختلفة دون تحسن يُذكر». وتؤكد الأم أن ما وصفته بـ«الصمت الاجتماعي» يزيد من معاناة الأسر: «نعيش فى عزلة، نظرات الناس، الأسئلة المحرجة، عدم فهم المجتمع لما نواجهه... كل ذلك يؤلم أكثر من المرض».
وتؤكد أم أحمد أن التوحد لا يُصيب الطفل وحده، بل يهز كيان الأسرة بالكامل. «نحن نحترق من الداخل دون أن يشعر بنا أحد، وننزف نفسيًا ونحن نحاول الصمود. الطفل لا يستطيع التعبير بالكلمات، ونحن لا نعرف ما يؤلمه أو يفرحه. هذه هى المأساة الحقيقية». وتشدد على أهمية توفير دعم نفسى منظم للأهالى، قائلة: «نحتاج من يسمعنا، لا فقط من يعالج أبناءنا».
أما أم على، فتصف واقعًا أكثر قسوة مع طفلها الذى شُخّص بالتوحد فى عمر السنتين والنصف. «لا يفهم التعليمات، لا يتواصل، ويؤذى نفسه أو شقيقه الرضيع بلا وعى. لا أستطيع تركه لحظة واحدة. حتى جلسات التخاطب أصبحت عبئًا ماديًا ونفسيًا، دون تطور حقيقي».
وتتساءل بقلق: «كيف سيدخل المدرسة؟ من سيرعاه؟ أين التأهيل الحقيقي؟»
دور الأسرة
فى إطار حديثها عن اضطراب طيف التوحد، أوضحت قمر عادل، إخصائية التخاطب والتواصل، أن التوحد يعد اضطرابًا تنمويًا عصبيًا يظهر فى مراحل الطفولة المبكرة، ويؤثر بشكل واضح على مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعى لدى الطفل، بالإضافة إلى سلوكيات نمطية أو تكرارية قد تكون موجودة. وأكدت أن التوحد ليس مرضًا عضويًا تقليديًا، بل هو حالة تحتاج إلى تدخل متخصص فى مراحل مبكرة، مشيرة إلى أن نجاح العلاج يعتمد بشكل أساسى على تعاون الأسرة ودعمها المستمر.
وأضافت: «تواجه العديد من الأسر تحديات كبيرة نتيجة السلوكيات الحادة التى قد يظهرها الطفل المصاب، مثل الصراخ، التكسير، العض، وإيذاء الآخرين. ورغم أن هذه السلوكيات قد تُفهم على أنها عدوانية، فإن الحقيقة أن الطفل يلجأ إليها كوسيلة للتعبير عن مشاعره أو احتياجاته بطريقة غير لفظية، بسبب ضعف أدوات التواصل لديه.» وأضافت أن هذه السلوكيات هى محاولة للتعبير عن القلق أو الإحباط، وليس عن قصد إحداث الأذى.
وشددت «عادل» على ضرورة التعامل مع هذه السلوكيات بشكل مدروس، من خلال برامج متخصصة فى تعديل السلوك، بعيدًا عن أساليب العقاب أو التوبيخ التى قد تزيد من تعقيد المشكلة. كما أكدت أهمية التشخيص المبكر، مشيرة إلى أن التأخير فى الكشف عن اضطراب طيف التوحد يقلل من فرص التحسن. وأضافت: «التدخل المبكر هو العامل الحاسم فى تحسين تطور الطفل وزيادة فرص اندماجه فى المجتمع.»
وفيما يخص أسباب التوحد، ذكرت قمر عادل أن السبب الدقيق ما يزال غير معروف، ولكن يُعتقد أنه مرتبط بعوامل جينية وبيولوجية تؤثر على نمو الدماغ، مما يؤثر بدوره على طريقة تعلم الطفل وتفاعله مع الآخرين. وأوضحت أن طيف التوحد يختلف فى شدته، حيث يظهر بعض الأطفال قدرات معرفية جيدة رغم معاناتهم من صعوبات التواصل، مما يزيد من فرصهم فى الاندماج داخل النظام التعليمى. كما لفتت إلى أن الأطفال الذين يتلقون علاجًا مبكرًا وعلاجًا مكثفًا يظهرون تحسنًا ملحوظًا، خصوصًا فى مجالات اللغة والتواصل.
التدخل السلوكي
من جانبه، أكد سامح حشيش، أخصائى النطق والتخاطب، أن اضطراب طيف التوحد هو اضطراب نمائى عصبى معقد يؤثر على التفاعل الاجتماعى واللغة والسلوك، مع تفاوت الأعراض من طفل لآخر. وانتقد «حشيش» التقسيمات السائدة التى تُقسّم التوحد إلى درجات، مؤكدًا أن هذا التصنيف لا يعكس الواقع السريرى بدقة، وقال: «الكثير من الأعراض تتداخل مع اضطرابات أخرى مثل التأخر اللغوى وفرط الحركة، مما يجعل التشخيص الدقيق أمرًا صعبًا.»
وأوضح «حشيش|» أن التشخيص لا يعتمد على عرض أو اثنين فقط، بل يحتاج إلى تقييم شامل يشمل تعاون أطباء الأعصاب والنفس وأخصائيى التخاطب. وأضاف أن الأسرة هى أول من يلاحظ الأعراض المبكرة، مثل الجمود وضعف الاستجابة للمنبهات، داعيًا إلى ضرورة التوجه لمختصين لإجراء تقييم مبكر. وأشار إلى أن جائحة كورونا واستخدام الأجهزة الذكية ساهمتا فى زيادة الحالات، حيث أن الاستخدام المفرط للشاشات قد يؤدى إلى خلل فى شبكات الدماغ ويؤثر على المهارات الاجتماعية واللغوية.
وشدد على أن العلاج الفعّال لا يعتمد على الأدوية بقدر ما يعتمد على التدخلات السلوكية والتربوية المكثفة. وقال: «التدخل السلوكى المبكر، الذى يشمل من 30 إلى 40 ساعة أسبوعيًا، هو الأساس فى تحسين مهارات الطفل.» وأكد أن دور الأسرة، وخاصة الأم، هو عنصر أساسى فى نجاح العلاج، مشيرًا إلى أن «الأم الواعية تمثل 70% من العلاج.»
تحديات مستقبلية
فى تصريح خاص لجريدة «الوفد»، أكدت الدكتورة إيمان كريم، المشرف العام على المجلس القومى للأشخاص ذوى الإعاقة، أن المجلس يواصل العمل بشكل جاد لتقديم دعم شامل للأطفال المصابين باضطراب طيف التوحد وأسرهم، عبر مجموعة من الخدمات المتكاملة التى تشمل العلاج والتعليم والتأهيل. وأشارت إلى أن هذه الجهود تأتى فى إطار التعاون المثمر مع الوزارات المعنية ومنظمات المجتمع المدنى، بما يضمن توفير بيئة ملائمة تدعم هؤلاء الأطفال وتتيح لهم الفرصة للمشاركة الفعالة فى المجتمع.
وقالت الدكتورة إيمان كريم: «إن المجلس يقدم خدمات متعددة تسهم فى تحقيق حقوق الأطفال ذوى التوحد، بداية من استخراج بطاقات الخدمات المتكاملة بالتعاون مع وزارة التضامن الاجتماعى، وصولًا إلى توفير برامج تأهيلية متخصصة للأطفال المصابين بالتوحد فى مراكز رعاية وتدريب الأسرة على كيفية التعامل مع الأبناء. كما أننا لا نغفل التعليم من خلال تطبيق قانون حقوق الأشخاص ذوى الإعاقة لضمان دمج الأطفال المصابين فى المدارس الحكومية والخاصة وفقًا لاحتياجاتهم الخاصة.»
وأوضحت أن المجلس يحرص على توفير التشخيص المبكر، وبرامج العلاج الوظيفى، وعلاج التخاطب، بالإضافة إلى ورش الإرشاد الأسرى التى تهدف إلى تمكين الأسر من التعامل مع التحديات اليومية.
كما أكدت الدكتورة إيمان كريم أن المجلس يتعاون مع مختلف المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدنى لضمان توفير الدعم المتكامل فى جميع أنحاء الجمهورية. كما أشارت إلى أهمية التوعية المجتمعية وتوفير بيئة شاملة للأطفال المصابين بالتوحد، كى ينموا ويحققوا إمكاناتهم الكاملة دون أى عوائق.
وفى ختام تصريحها، دعت الدكتورة إيمان كريم الأسر إلى التواصل مع المجلس للاستفادة من الخدمات المقدمة، مشيرة إلى أن الدعم الحكومى لا يزال فى تطور مستمر لتلبية احتياجات الأطفال المصابين بالتوحد فى مختلف أنحاء مصر.