فى الصميم
فى عالم يترنح تحت أعباء الأزمات، كان من المنتظر أن تأتى رئاسة الولايات المتحدة ببعض من التعقل، لا سيما من دولة طالما قدمت نفسها كحامية للنظام الدولي.
لكن مئة يوم فقط كانت كفيلة بكشف الوجه الحقيقى لدونالد ترامب.. رئيس لا يؤمن بالقانون، ولا يحترم الأعراف، ويقود العالم نحو هاوية من الفوضى والنزاعات المتفجرة.
منذ دخوله البيت الأبيض فى 20 يناير، بدأ ترامب سياسة خارجية عنوانها الابتزاز، ومضمونها الهيمنة.
قدم نفسه كـ«صانع سلام»، لكنه سرعان ما تحول إلى داعم لصوت المدافع والطائرات فى فلسطين، حين دعم الاحتلال الإسرائيلى بشكل سافر، وضغط لفرض التهجير القسرى للفلسطينيين نحو مصر والأردن، وعندما قوبل بالرفض، أُعيد فتح الحرب على غزة، وسط صمت أمريكى عن استهداف المساعدات، وتجويع المدنيين.
فى قطاع غزة، يعيش أكثر من مليونى إنسان تحت الحصار، والجوع، والمرض، بينما تمنع إسرائيل دخول الدواء والغذاء، وتستخدم سياسة العقاب الجماعي.
ومع هذا، لم تحرك الإدارة الأمريكية ساكناً، بل واصلت دعمها لحكومة الاحتلال، متجاهلة بيانات المنظمات الدولية التى تحذر من كارثة إنسانية غير مسبوقة.
وفى أوكرانيا، لم يكن الدعم الأمريكى إلا مشروطاً، حيث اشترط ترامب تقديم مساعدات مقابل الحصول على حصص من المعادن النادرة، ليحوّل الأزمة إلى صفقة تجارية تخدم المصالح الأمريكية.
ترامب لم يكتفِ بتأجيج نيران الصراع فى فلسطين وأوكرانيا، بل كان له اليد الطولى فى تعقيد الأزمات فى اليمن، ولبنان، وسوريا، وإيران.
فدعم التصعيد العسكري، وعطل المسارات الدبلوماسية، وبارك الانقسامات، وساهم فى إذكاء التوترات المذهبية والسياسية.
فى اليمن، كان الداعم الأكبر لاستمرار الحرب.. فى سوريا، خلط الأوراق بتدخلات عسكرية وانتقائية فى الدعم.. فى لبنان، ساهم فى خنق الاقتصاد وزيادة الضغوط.. وفى إيران، دفع بسياسة «أقصى ضغط»، عبر عقوبات خانقة أعادت أجواء الحرب الباردة.
على الصعيد الاقتصادي، فجر ترامب حرباً تجارية مع الصين وأوروبا، وأطلق تصريحات غريبة تطال كندا وغرينلاند وقناة بنما، ملوحاً بالضم والسيطرة، فى لغة استعمارية لا تليق برئيس فى القرن الحادى والعشرين.
ولم تتوقف تجاوزاته عند الخارج، بل وصلت إلى السيادة المصرية، حين تحدث باستخفاف عن عبور السفن الأمريكية لقناة السويس دون دفع رسوم. وهو حديث يتنافى مع الواقع، ويهين سيادة دولة تُدير ممرها الدولى وفق قواعد دولية واضحة تحترم الجميع.
وإذا استمر ترامب على هذا النهج، فإنه لا يسعى فقط لإشعال الحروب، بل يعمل على إعادة قانون الغاب، حيث لا صوت يعلو فوق صوت القوة، ولا شرعية إلا للبلطجة، ولا قانون يحكم سوى منطق الهيمنة.
فى عالم تتآكله الأزمات، ما يحتاجه الناس هو قادة يسعون للتهدئة، لا للتهديد، للحوار لا للابتزاز، وللتعاون لا للتفرد، لكن ما نشهده اليوم هو عكس ذلك تماماً، فنحن أمام رئيس لأكبر دولة، يُملي، ويقايض، ويقود العالم إلى الفوضى.
مئة يوم فقط كشفت الكثير، وإذا استمر ترامب على هذا المنوال، فإن السنوات القادمة ستكون أكثر اضطراباً، وأقل أمناً، وربما أكثر ظلماً.
على المجتمع الدولى أن يعى خطورة المسار، وأن يقف موحداً ضد سياسة تعيد العالم إلى زمن القوة العمياء والعدالة المفقودة. التاريخ لا يرحم، والتهاون اليوم سيكون نكسة للأجيال القادمة.
[email protected]