من مهوى غرام الرئيس الفرنسي.. حكاية الزجاج اليدوي في خان الخليلي
الزجاج اليدوي .. في قلب القاهرة الفاطمية تتشابك الأرواح مع عبق الذكرى التي تضرب بجذورها في التاريخ، تتسلل خطواتك إلى "خان الخليلي"، ذلك القلب النابض في جسد القاهرة العتيقة.
حين تتحدث الحجارة.. وتتنفس الأزقة
يقودك البخور المستكي بين الحارات الضيقة والدهاليز النافذة، إلى حيث يتوقف الزمن وتروى الحجارة أسرار الزمان التي خلبت عقل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته المنصرمة إلى معقل الجمال المملوكي قصة روتها مشربيات الخان عزفت على أوتار قلب ماكرون وجعلت المقربون منه يجزمون أنه لم يكن راغبًا في مغادرة الحي ولا البلد.
صناعة الزجاج حين يُصبح اللهب مرآة للجمال
في دكان صغير ينبض بالألوان، يستقبلك حسام، عازف الزجاج ونافَس اللهب يجلس أمام فرن بلدي، وقناني قديمة تنتظر مصيرًا جديدًا.
ومع تصاعد لهيب النار يوقد حسام على الزجاج القديم فتتحول الشظايا المنسية إلى فن يُحاكي الضوء، وبأنبوبٍ معدني طويل، يُمسك حسام كتلة من الزجاج المنصهر، ويمنح قبلة الحياة إلى القارورة العتيقة قبل أن صقل القطعة بـ "البولين"، ويهذب ثناياها بـ "المربع والماشة".
"دكان الداعور": مختبر السحر اليدوي
على مقربة من "قهوة نجيب محفوظ"، حيث يجد الكتاب والمثقفون وعشاق الأدب ملاذًا هادئًا لهم في قلب الخان بعيدًا عن الجلبة وأصوات الباعة، يفتح "دكان الداعور" أبوابه للزائرين، ليحكي قصة عشق الزجاج والقوارير الملونة والزهريات بألوانها الخلابة وزجاجات العطور بتصميماتها التليدة.
من الآباء إلى الأبناء: حرفة تجري في العروق
لم يستقر هوى الزجاج في قلب حسام إلا بعد سنوات طويلة رافق خلالها والده "الحاج سيد"، الذي ورثه سرّ النفخ وتطويع الألوان، وغرس فيه حب التفاصيل.
وفي الورشة القديمة بشارع الحسينية، تعلّم حسام كيف يستمع إلى الزجاج قبل صقله، كيف يُحاور اللهب ويُقنعه أن يُعيد تشكيل الذكرى، في رحلة يرافقه فيها منذ عقود عم "علي"، وصغيره رضا، يشكّلون معًا سيمفونية تُعزف بأنفاسهم.
الصناعة تصارع النسيان... والأسعار تصهر الزجاج
وبين زجاجة وأخرى، تختبئ مرارة الواقع فبينما ينفث حسام في الزجاج، تنفخ الأسعار لهيبها في الصدور بعد أن ارتفعت كلفة الخامات، وغزا السوق زجاج مستورد فاقد للروح، بلا تفاصيل، بلا حياة.
ومع كل موجة غلاء، تتآكل أحلام صناع الزجاج اليدوي فيما يواصل حسام رحلته شبه اليومية في التنقيب عن بدائل رخيصة للخامات المعتادة يعيد خلالها تدوير الزجاج المهمل مواصلاً مقاومة براثن النسيان.
الزجاج.. مرآة مدينة لا تُقهر
جولة من الجمال لن تستطيع أن تنهيها دون اقتناء زهرية، أو قنينة، أو قطعة تذكارية من الزجاج، تحمل بين طياتها شيئًا من روح "خان الخليلي"، ومن وهج فرنٍ بلدي، ومن أنفاس جيل لا يريد لحرفته أن تندثر.