رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري
رئيس حزب الوفد ورئيس مجلس الإدارة
د.عبد السند يمامة
المشرف العام
سامي أبو العز
رئيس التحرير
ياسر شوري

فى شتاء عام 1991، حين دوى صوت القنابل الأمريكية فوق بغداد، كنت أدرس فى قسم الدراسات الشرق أوسطية بجامعة برينستون. وقفت، إلى جانب زميلة فلسطينية، نحمل معا لافتة يتيمة فى ساحة الجامعة، ندين فيها تلك الضربات، ونعبر عن رفضنا للحرب. لم نكتف بذلك، بل اعترضنا على منح برينستون الرئيس بوش الأب دكتوراه فخرية، وشاركنا فى «حملة توعية» حملنا خلالها شعلة الفكر الحر فى وجه نار الحرب. يومها، لم نكن نحتمى بجنسية أمريكية، ولم تكن لنا حصانة سوى صوتنا، ومع ذلك، لم تطلنا يد العقاب. 

لكن الأحوال اليوم تغيرت فما نشهده الآن فى جامعات الولايات المتحدة يبعث على القلق. تحول الحرم الجامعى إلى ساحة حرب صامتة تغتال فيها الحرية بسكين مغلف بأوراق القانون. طلاب وأساتذة يعتقلون سراً، تلغى إقاماتهم، ويمنعون من التعبير، لا لشىء إلا لأنهم رفعوا صوتاً مناصراً لحق أهل غزة فى الحياة بعد أن قتلت اسرائيل أكثر من خمسين ألفا منهم، معظمهم من الاطفال والنساء. منبر الجامعة الذى كان بالأمس فضاءً للحوار، صار اليوم قفصاً تلاحق فيه الأفكار. 

تحت شعار «الأمن القومى»، تسير إدارة ترامب كمن يحمل مطرقة يضرب بها أعمدة التعليم العالى. تخفيض التمويلات، فرض الرقابة، وسن سكين القوانين ضد الطلاب والأساتذة، كلها أدوات تستخدم فى معركة هدفها تكميم الفكر وتوجيهه. جامعة هارفارد، أحد قلاع المعرفة، وضعت تحت تهديد سحب تسعة مليارات دولار من المنح، بحجة تقاعسها عن مكافحة «معاداة السامية». أما كولومبيا، فحرمت من 400 مليون دولار من الدعم البحثى، لتجد نفسها مضطرة لفرض إجراءات أمنية تعكس مناخ الخوف المسيطر. 

قصة محمود خليل، الطالب الفلسطينى فى كولومبيا، و روميسا أوزتورك، الطالبة التركية فى جامعة تفتس، تلخصان المأساة: اعتقال، طرد، ومصادرة للحق فى التعبير. ليست هذه سوى أمثلة على واقع يتسع كظل ثقيل، يهدد بجرف الجامعات من أروقة العلم إلى ميادين الصراع السياسى. 

إنها معركة على الروح الاكاديمية وحرية التعبير، لا على الميزانيات فقط. فحين يختطف البحث من بين يدى الباحثين، فإننا لا نخسر مؤسسات علمية فقط بل نخسر البوصلة. مستقبل التعليم العالى فى أمريكا على المحك، وما لم تتم مراجعة هذه السياسات الجائرة، فإن النخبة الفكرية التى بنت مجد الجامعات الأمريكية قد تبحث عن أوطان فكرية جديدة، حيث لا يحاكم الفكر. 

إننا – كأكاديميين ومفكرين – أمة واحدة، نمثل ضميراً عالمياً واحداً؛ فما يصيب زملاءنا فى الجامعات الامريكية، لا يصيبهم وحدهم، بل يصيبنا هنا فى الشرق. فهل نرضى بأن تخمد جذوة البحث والتفكير، ونسلم مقهورة الى سياسات عابرة مشبعة بالتطرف، وضيق الأفق، ومعاداة الفكر، والانحياز الأعمى؟ أم ننهض، كما عاهدنا أنفسنا، كى نحمى العقل من التهميش، ونصون الحرية الأكاديمية من التآكل، ونبقى شعلة الفكر حية، متألقة، متوهجة، لا تخبو؟