في كل مرة أقرأ فيها عن يوم الثالث والعشرين من مارس عام 1925، أشعر أن شيئا في دمي يتحرك، وكأن أصوات الطلبة الذين خرجوا يهتفون ضد الاحتلال البريطاني لا تزال تملأ الشوارع.
لم يكن ما جرى مجرد مظاهرة طلابية عابرة، بل كان لحظة فاصلة في تاريخ الوعي الوطني المصري، حين وقف شباب الجامعات، أبناء الوفد، ليقولوا للملك فؤاد وللاحتلال معا إن مصر لا تباع ولا تشترى، وإن الكلمة الأخيرة دائما تكون للشعب.
ذلك الجيل من طلاب 1925 لم يكن جيلا عاديا، كانوا أبناء مدرسة سعد زغلول الوطنية، تربية ميدان الثورة وليس مقاعد الدرس فقط، تعلموا من زعيم الأمة أن الوطنية ليست شعارا يرفع في المناسبات، بل هي سلوك يومي، والتزام بالكرامة والحرية والمستقبل.
خرجوا يومها بعد أن حل الملك البرلمان المنتخب، في خطوة رأى فيها المصريون تآمرا واضحا على إرادتهم وعلى حزبهم الذي أحبوه، حزب الوفد، لم ينتظروا توجيهات من أحد، ولم يخرجوا بحثا عن صخب أو شهرة، بل تحركوا بدافع الفطرة الوطنية التي زرعتها فيهم تربة مصر.
أتخيلهم يسيرون في صفوف متراصة، يهتفون للحرية، ويواجهون جنود الاحتلال بصدور عارية وإيمان صلب، كانت الجامعة المصرية يومها مصنعا للرجال، ومعملا لإنتاج الوعي، ومحرابا للوطنية الخالصة.
لم يكن هناك وسائل تواصل اجتماعي ولا كاميرات تلاحقهم، ولكن التاريخ سجل أسماءهم بحروف من نور، لأنهم آمنوا أن مصر تستحق التضحية، وأن الطلبة الذين يدرسون اليوم هم قادة الغد الذين سيحمون استقلالها غدا.
كلما تأملت تلك اللحظة، أدركت أنني واحد من أبناء تلك المدرسة الوطنية التي أسسها سعد زغلول، مدرسة الوفد، ربما لم أعش زمن سعد، لكنني تربيت على مبادئه، على حب الوطن واحترام ترابه، على أن الكلمة الصادقة أمانة، وأن الدفاع عن مصر شرف لا يعلوه شرف.
الوفد بالنسبة لي لم يكن حزبا سياسيا فقط، بل كان وجدانا مصريا أصيلا، يشبه رائحة التراب بعد المطر، ويشبه النيل حين يفيض بالخير.
من تلك المدرسة تعلمت أن حب الوطن لا يكون بالصوت العالي فقط، بل بالعمل والانضباط والإخلاص، وأن الوطنية الحقيقية لا تعرف الكسل ولا الفوضى، بل تعرف النظام والإنتاج والبناء.
حين أنظر إلى شباب مصر اليوم، أرى في عيون كثير منهم نفس اللمعة التي كانت في عيون طلاب 1925، صحيح أن الزمان تغير، وأن معركة اليوم ليست ضد احتلال أجنبي بالسلاح، لكنها معركة من نوع آخر: معركة وعي، وبناء، وتنمية.
الاحتلال اليوم قد يكون جهلا، أو تطرفا، أو تهاونا في حق الوطن، ولذلك، فإن واجبنا نحن الشباب أن نحمل الراية التي رفعها طلاب الأمس، ولكن بأدوات العصر: بالعلم، بالالتزام، بالإتقان، وبالإيمان بأن مصر الحديثة التي تبنى الآن تحتاج لكل يد مخلصة ولكل عقل منضبط.
الجمهورية الجديدة التي نحياها اليوم هي امتداد طبيعي لذلك الحلم القديم بالاستقلال والكرامة، مصر التي كانت تحارب لتسترد دستورها عام 1925 هي نفسها مصر التي تبني مؤسساتها اليوم لتضمن العدل والكرامة لأبنائها.
التحدي تغير، لكن الجوهر واحد: أن تبقى مصر حرة وقوية ومضيئة. وما أحوجنا اليوم إلى أن نستعيد تلك الروح التي ملأت شوارع القاهرة يومها، روح الإصرار والتحدي، روح أن نقول "لا" في وجه الباطل، وأن نقول "نعم" لكل ما يجعل هذا الوطن أعظم وأجمل.
أنا أؤمن أن الشعوب لا تنهض إلا حين تعرف قدر شبابها، وأن الشباب لا يكون جديرا بهذا الاسم إلا إذا حمل في قلبه حب الوطن مثلما حمله طلاب 1925.
هؤلاء لم ينتظروا مكافأة، ولم يسعوا وراء مصلحة، بل خرجوا ليقولوا: “نحن هنا، من أجل مصر، ” واليوم، ونحن نكتب فصلا جديدا من حكاية هذا البلد العظيم، لا بد أن نردد نفس الجملة، ولكن بمعناها العصري: “نحن هنا، نبني ونتعلم ونعمل من أجل مصر.”
تلك الروح هي ما نحتاج أن نغرسه في أجيالنا الجديدة: أن الوطن لا يمنح بل يصنع، وأن الحرية لا تهدى بل تنتزع بالوعي والإصرار، من 1925 إلى 2025، مئة عام من الكفاح المتواصل، من التضحية والصبر، من الإيمان بأن هذه الأرض الطيبة تستحق دائما الأفضل.
قد تتغير الوجوه والظروف، لكن تبقى مصر هي الثابت الوحيد، ويبقى حبها هو البوصلة التي تهدي كل مصري صادق في زمن التحديات.
وأنا، مثل أولئك الطلبة الذين خرجوا يهتفون قبل قرن، أقولها بكل يقين: ما دمت على أرض هذا الوطن، فسأظل أدافع عنه بالكلمة والعمل، وسأظل مؤمنا أن لا شيء أعظم من أن تكون مصريا، وأن الانتماء لهذا البلد ليس مجرد هوية، بل قدر جميل وشرف عظيم.